قوله : غلبت الروم خبر مستعمل في لازم فائدته على طريق الكناية ، أي نحن نعلم بأن الروم غلبت ، فلا يهنكم ذلك ولا تطاولوا به على رسولنا وأوليائنا ، فإنا [ ص: 42 ] نعلم أنهم سيغلبون من غلبوهم بعد بضع سنين بحيث لا يعد الغلب في مثله غلبا .
فالمقصود من الكلام هو جملة وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين وكان ما قبله تمهيدا له .
وإسناد الفعل إلى المجهول لأن الغرض هو الحديث عن المغلوب لا على الغالب ؛ ولأنه قد عرف أن الذين غلبوا الروم هم الفرس .
والروم : اسم غلب في كلام العرب على أمة مختلطة من اليونان والصقالبة ومن الرومانيين الذين أصلهم من اللاطينيين سكان إيطاليا نزحوا إلى أطراف شرق أوربا ، تقومت هذه الأمة المسماة الروم على هذا المزيج ، فجاءت منها مملكة تحتل قطعة من أوربا وقطعة من آسيا الصغرى وهي بلاد الأناظول ، وقد أطلق العرب على مجموع هذه الأمة اسم الروم تفرقة بينهم وبين الرومان اللاطينيين . وسموا الروم أيضا ببني الأصفر كما جاء في حديث أبي سفيان عن كتاب النبيء - صلى الله عليه وسلم - المبعوث إلى هرقل سلطان الروم وهو في حمص من بلاد الشام إذ قال أبو سفيان لأصحابه : لقد أمر أمر ، إنه يخافه ملك ابن أبي كبشة بني الأصفر .
وسبب اتصال الأمة الرومانية بالأمة اليونانية وتكون أمة الروم من الخليطين هو أن اليونان كان لهم استيلاء على صقلية وبعض بلاد إيطاليا ، وكانوا بذلك في اتصالات وحروب سجال مع الرومان ربما عظمت واتسعت مملكة الرومان تدريجا بسبب الفتوحات ، وتسربت سلطتهم إلى إفريقيا وأداني آسيا الصغرى بفتوحات " يوليوس قيصر " لمصر وشمال أفريقيا وبلاد اليونان ، وبتوالي الفتوحات للقياصرة من بعده فصارت تبلغ من رومة إلى أرمينيا والعراق ، ودخلت فيها بلاد اليونان ومدائن رودس وساقس وكاريا والصقالبة الذين على نهر الطونة ، ولحق بها البيزنطينيون المنسوبون إلى مدينة بيزنطة الواقعة في موقع استانبول على البسفور ، وهم أصناف من اليونان والإسبرطيين ، وكانوا أهل تجارة عظيمة في أوائل القرن الرابع قبل المسيح ، ثم ألفوا اتحادا بينهم وبين أهل رودس وساقس ، وكانت بيزنطة من جملة مملكة إسكندر المقدوني وبعد موته واقتسام قواده المملكة من بعده صارت بيزنطة دولة مستقلة ، وانضوت تحت سلطة رومة ، فحكمها قياصرة الرومان إلى أن صار قسطنطين قيصرا [ ص: 43 ] لرومة وانفرد بالسلطة في حدود سنة ( 332 ) مسيحية ، وجمع شتات المملكة ، فجعل للمملكة عاصمتين : عاصمة غربية هي " رومة " وعاصمة شرقية اختطها مدينة عظيمة على بقايا مدينة بيزنطة وسماها " قسطنطينية " ، وانصرفت همته إلى سكناها ، فنالت شهرة تفوق " رومة . وبعد موته سنة ( 337 ) قسمت المملكة بين أولاده ، وكان القسم الشرقي الذي هو بلاد الروم وعاصمته القسطنطينية لابنه " قسطنطينيوس " ، فمنذ ذلك الحين صارت مملكة القسطنطينية هي مملكة الروم ، وبقيت مملكة " رومة " مملكة الرومان . وزاد انفصال المملكتين في سنة ( 395 ) حين قسم " طيودسيوس " بلدان السلطنة الرومانية بين ولديه ، فجعلها قسمين : مملكة شرقية ومملكة غربية ، فاشتهرت المملكة الشرقية باسم بلاد الروم وعاصمتها " القسطنطينية " . ويعرف الروم عند الإفرنج بالبيزنطينيين نسبة إلى " بيزنطة " ، اسم مدينة يونانية قديمة واقعة على شاطئ البوسفور الذي هو قسم من موقع المدينة التي حدثت بعدها كما تقدم آنفا . وقد صارت ذات تجارة عظيمة في القرن الخامس قبل المسيح وسمي ميناها بالقرن الذهبي . وفي أواخر القرن الرابع قبل المسيح خلعت طاعة أثينا . وفي أواسط القرن الرابع بعد المسيح جعل قسطنطين سلطان مدينة القسطنطينية .
وهذا الغلب الذي ذكر في هذه الآية هو انهزام الروم في الحرب التي جرت بينهم وبين الفرس سنة ( 615 ) مسيحية ، وذلك أن خسرو بن هرمز ملك الفرس غزا الروم في بلاد الشام وفلسطين ، وهي من البلاد الواقعة تحت حكم " هرقل " قيصر الروم ، فنازل أنطاكية ثم دمشق ، وكانت الهزيمة العظيمة على الروم في أطراف بلاد الشام المحادة بلاد العرب بين بصرى وأذرعات . وذلك هو المراد في هذه الآية بأدنى الأرض أي أدنى بلاد الروم إلى بلاد العرب .
فالتعريف في الأرض للعهد ، أي أرض الروم المتحدث عنهم ، أو اللام عوض عن المضاف إليه ، أي في أدنى أرضهم ، أو أدنى أرض الله . وحذف متعلق أدنى لظهور أن تقديره : من أرضكم ، أي أقرب بلاد الروم من أرض العرب ، فإن بلاد الشام تابعة يومئذ للروم وهي أقرب مملكة الروم من بلاد العرب .
وكانت هذه الهزيمة هزيمة كبرى للروم .
وقوله : وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين إخبار بوعد معطوف [ ص: 44 ] على الإخبار الذي قبله . وضمائر الجمع عائدة إلى الروم .
و غلبهم مصدر مضاف إلى مفعوله . وحذف مفعول سيغلبون للعلم بأن تقديره : سيغلبون الذين غلبوهم ، أي الفرس ، إذ لا يتوهم أن المراد سيغلبون قوما آخرين ؛ لأن غلبهم على قوم آخرين وإن كان يرفع من شأنهم ويدفع عنهم معرة غلب الفرس إياهم ، لكن القصة تبين المراد ؛ ولأن تمام المنة على المسلمين بأن يغلب الروم الفرس الذين ابتهج المشركون بغلبهم وشمتوا لأجله بالمسلمين كما تقدم .
وفائدة ذكر " من بعد غلبهم " التنبيه على عظم تلك الهزيمة عليهم ، وأنها بحيث لا يظن نصر لهم بعدها ، فابتهج بذلك المشركون ، فالوعد بأنهم سيغلبون بعد ذلك الانهزام في أمد غير طويل تحد تحدى به القرآن المشركين ، ودليل على أن الله قدر لهم الغلب على الفرس تقديرا خارقا للعادة ؛ معجزة لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وكرامة للمسلمين .
ولفظ " بضع " بكسر الموحدة كناية عن عدد قليل لا يتجاوز العشرة ، وقد تقدم في قوله تعالى : فلبث في السجن بضع سنين في سورة يوسف ، وهذا أجل لرد الكرة لهم على الفرس .
وحكمة إبهام عدد السنين أنه مقتضى حال كلام العظيم الحكيم أن يقتصر على المقصود إجمالا ، وأن لا يتنازل إلى التفصيل ؛ لأن ذلك التفصيل يتنزل منزلة الحشو عند أهل العقول الراجحة ، وليكون للمسلمين رجاء في مدة أقرب مما ظهر ، ففي ذلك تفريج عليهم .
وهذه الآية من معجزات القرآن الراجعة إلى الجهة الرابعة في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير .
روى الترمذي بأسانيد حسنة وصحيحة أن المشركين كانوا يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم ؛ لأنهم وإياهم أهل أوثان ، وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على أهل فارس ؛ لأنهم أهل كتاب مثلهم ، فكانت فارس يوم نزلت الم غلبت الروم قاهرين للروم ، فذكروه لأبي بكر ، فذكره أبو بكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصيح في نواحي أبو بكر الصديق مكة الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين فقال ناس من قريش لأبي بكر : فذلك بيننا وبينكم ، زعم صاحبكم أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين ، أفلا نراهنك على ذلك قال : بلى ، وذلك قبل تحريم الرهان ، وقالوا لأبي بكر : كم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين ، فسم بيننا وبينك وسطا ننتهي إليه . فسمى أبو بكر لهم ست سنين ، فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان ، فمضت ست السنين قبل أن يظهر الروم ، فأخذ المشركون رهن أبي بكر . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر ألا أخفضت يا أبا بكر ، ألا جعلته إلى دون العشر ، فإن البضع ما بين الثلاث إلى التسع . وعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست سنين ، وأسلم عند ذلك ناس كثير . وذكر المفسرون أن الذي راهن فقال رسول الله : [ ص: 45 ] أما إنهم سيغلبون ، ونزلت هذه الآية ، فخرج أبا بكر هو أبي بن خلف ، وأنهم جعلوا الرهان خمس قلائص ، وفي رواية أنهم بعد أن جعلوا الأجل ستة أعوام غيروه فجعلوه تسعة أعوام وازدادوا في عدد القلائص ، وأن أبا بكر لما أراد الهجرة مع النبيء - صلى الله عليه وسلم - تعلق به أبي بن خلف وقال له : أعطني كفيلا بالخطر إن غلبت ، فكفل به ابنه عبد الرحمن ، وكان عبد الرحمن أيامئذ مشركا باقيا بمكة ، وأنه لما أراد أبي بن خلف الخروج إلى أحد طلبه عبد الرحمن بكفيل فأعطاه كفيلا . ثم مات أبي بمكة من جرح جرحه النبيء - صلى الله عليه وسلم - ، فلما غلب الروم بعد سبع سنين أخذ أبو بكر الخطر من ورثة أبي بن خلف .
وقد كان الروم على الفرس في سنة ست ، وورد الخبر إلى المسلمين . وفي حديث تغلب الترمذي عن قال : لما كان يوم أبي سعيد الخدري بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين . والمعروف أن ذلك كان يوم الحديبية . وقد تقدم في أول السورة أن المدة بين انهزام الروم وانهزام الفرس سبع سنين - بتقديم السين - وأن ما وقع في بعض الروايات أنها تسع هو تصحيف . وقد كان غلب الروم على الفرس في سلطنة هرقل قيصر الروم ، وبإثره جاء هرقل إلى بلاد الشام ونزل حمص ولقي في رهط من أبا سفيان بن حرب أهل مكة جاءوا تجارا إلى الشام .
واعلم أن هذه الرواية في مخاطرة أبي بكر وأبي بن خلف وتقرير النبيء - صلى الله عليه وسلم - إياها احتج بها أبو حنيفة على جواز العقود الربوية مع أهل الحرب . وأما الجمهور [ ص: 46 ] فهذا يرونه منسوخا بما ورد من نهيا مطلقا لم يقيد بغير أهل الحرب . وتحقيق المسألة أن المراهنة التي جرت بين النهي عن القمار أبي بكر وأبي بن خلف جرت على الإباحة الأصلية ؛ إذ لم يكن شرع بمكة أيامئذ ، فلا دليل فيها على إباحة المراهنة ، وأن تحريم المراهنة بعد ذلك تشريع أنف وليس من النسخ في شيء .
لله الأمر من قبل ومن بعد
جملة معترضة بين المتعاطفات . والمراد بالأمر أمر التقدير والتكوين ، أي أن الله قدر الغلب الأول والثاني قبل أن يقعا ، أي من قبل غلب الروم على الفرس وهو المدة التي من يوم غلب الفرس عليهم ومن بعد غلب الروم على الفرس .
فهنالك مضافان إليهما محذوفان . فبنيت " قبل " و " بعد " على الضم ؛ لحذف المضاف إليه ؛ لافتقار معناهما إلى تقدير مضافين إليهما فأشبهتا الحرف في افتقار معناه إلى الاتصال بغيره . وهذا البناء هو الأفصح في الاستعمال إذا حذف ما تضاف إليه " قبل " و " بعد " وقدر لوجود دليل عليه في الكلام ، وأما إذا لم تقصد إضافتهما بل أريد بهما الزمن السابق والزمن اللاحق ، فإنهما يعربان كسائر الأسماء النكرات ، كما قال عبد الله بن يعرب بن معاوية أو يزيد بن الصعق :
فساغ لي الشراب وكنت قبلا أكاد أغص بالماء الحمـيم
أي وكنت في زمن سبق لا يقصد تعيينه . وجوز الفراء فيهما مع حذف المضاف إليه أن تبقى فيهما حركة الإعراب بدون تنوين ، ودرج عليه ابن هشام ، وأنكره ، وجعل من الخطإ رواية قول الشاعر الذي لا يعرف اسمه : الزجاجومن قبل نادى كل مولى قرابة فما عطفت مولى عليه العواطف
وتقديم المجرور في قوله : " لله الأمر " لإبطال تطاول المشركين الذين بهجهم غلب الفرس على الروم لأنهم عبدة أصنام مثلهم ؛ لاستلزامه الاعتقاد بأن ذلك الغلب من نصر الأصنام عبادها ، فبين لهم بطلان ذلك وأن التصرف لله وحده في [ ص: 47 ] الحالين ؛ للحكمة التي بيناها آنفا كما دل عليه التذييل بقوله : ينصر من يشاء .
فيه أدب عظيم للمسلمين لكي لا يعللوا الحوادث بغير أسبابها وينتحلوا لها عللا توافق الأهواء كما كانت تفعله الدجاجلة من الكهان وأضرابهم . وهذا المعنى كان النبيء - صلى الله عليه وسلم - يعلنه في خطبه ، فقد كسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن النبيء فقال الناس : كسفت لموت إبراهيم ، فخطب النبيء - صلى الله عليه وسلم - فقال في خطبته : . وكان من صناعة الدجل أن يتلقن أصحاب الدجل الحوادث المقارنة لبعض الأحوال فيزعموا أنها كانت لذلك مع أنها تنفع أقواما وتضر بآخرين ؛ ولهذا كان التأييد بنصر إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته الروم في هذه الآية موعودا به من قبل ؛ ليعلم الناس كلهم أنه متحدى به قبل وقوعه لا مدعى به بعد وقوعه ؛ ولهذا قال تعالى بعد الوعود ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله .