ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون .
عطف على جملة فرقوا دينهم وكانوا شيعا أي فرقوا دينهم وكانوا شيعا ، وإذا مسهم ضر فدعوا الله وحده فرحمهم عادوا إلى شركهم وكفرهم نعمة الذي رحمهم ، فالمقصود من الجملة هو قوله ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون فمحل انتظامه في مذام المشركين أنهم يرجعون إلى الكفر ، بخلاف حال المؤمنين فإنهم أذاقهم الله رحمة بعد ضر شكروا نعمة ربهم وذلك من إنابتهم إلى الله .
ونسج الكلام على هذا الأسلوب ليكون بمنزلة التذييل بما في لفظ [ ص: 97 ] الناس من العموم وإدماجا لفضيلة المؤمنين الذين لا يكفرون نعمة الرحيم . فالتعريف في الناس للاستغراق .
والضر ، بضم الضاد : سوء الحال في البدن أو العيش أو المال ، وهذا نحو ما أصاب قريشا من الشدة والقحط حتى كانوا يرون في الجو مثل الدخان من شدة الجفاف ، وحتى أكلوا العظام والميتة ، وقد أصاب ذلك مشركيهم ومؤمنيهم وكانت شدته على المشركين لأنهم كانوا في رفاهية ، فالشدة أقوى عليهم . فأرسلوا إلى النبيء صلى الله عليه وسلم يستشفعون به أن يدعو الله بكشف الضر عنهم فدعا فأمطروا فعادوا إلى ترفهم ، قال تعالى فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين الآيات ، فدعاؤهم ربهم يشمل طلبهم أن يدعو لهم الرسول صلى الله عليه وسلم . ومنيبين حال من الناس كلهم أي استووا في الإنابة إليه أي راجعين إليه بعد ، واشتغل المشركون عنه بدعاء الأصنام ، قال تعالى إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون . وتقدم منيبين آنفا .
والمس : مستعار للإصابة . وحقيقة : المس أنه وضع اليد على شيء ليعرف وجوده أو يختبر حاله ، وتقدم في قوله ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم في العقود .
واختير هنا لما يستلزمه من خفة الإصابة ، أي يدعون الله إذا أصابهم خفيف ضر بله الضر الشديد .
والإذاقة : مستعارة للإصابة أيضا ، وحقيقتها : إصابة المطعوم بطرف اللسان وهي أضعف إصابات الأعضاء للأجسام فهي أقل من المضغ والبلع ، وتقدم في قوله تعالى ليذوق وبال أمره في سورة العقود ، و وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء في سورة يونس .
واختير فعل الإذاقة لما يدل عليه من إسراعهم إلى الإشراك عند ابتداء إصابة الرحمة لهم .
والرحمة : تخليصهم من الشدة .
[ ص: 98 ] وثم للتراخي الرتبي لأن إشراكهم بالله بعد الدعاء والإنابة وحصول رحمته أعجب من إشراكهم السابق ، ففي التراخي الرتبي معنى التعجيب من تجدد إشراكهم ، وحرف المفاجأة إذا يفيد أيضا أن هذا الفريق أسرعوا العودة إلى الشرك بحدثان ذوق الرحمة لتأصل الكفر منهم وكمونه في نفوسهم .
وضمير منه عائد إلى الله تعالى . ومن ابتدائية متعلقة بـ ( أصابهم ) . و " رحمة " فاعل أصابهم ولم يؤنث لها الفعل لأن تأنيث مسمى الرحمة غير حقيقي ولأجل الفصل بالمجرور . وتقديم المجرور على الفاعل للاهتمام به ليظهر أن الذي أصابهم هو من فضل الله وتقديره لا غير ذلك .
واللام في قوله ليكفروا لام التعليل وهي مستعارة لمعنى التسبب الذي حقه أن يفاد بالفاء لأنهم لما أشركوا لم يريدوا بشركهم أن يجعلوه علة للكفر بالنعمة ولكنهم أشركوا محبة للشرك فكان الشرك مفضيا إلى كفرهم نعمة الله خشية الإفضاء والتسبب بالعلة الغائية على نحو قوله تعالى فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا . وضمير ( ليكفروا ) عائد إلى الفريق باعتبار معناه .
والإيتاء : إعطاء النافع ، أي بما أنعمنا عليهم من النعم التي هي نعمة الإيجاد والرزق وكشف الضر عنهم .
ثم التفت عن الغيبة إلى الخطاب بقوله فتمتعوا توبيخا لهم وإنذارا ، وجيء بفاء التفريع في قوله فتمتعوا لأن الإنذار والتوبيخ مفرعان عن الكلام السابق .
والأمر في تمتعوا مستعمل في التهديد والتوبيخ .
والتمتع : الانتفاع بالملائم وبالنعمة مدة تنقضي .
والفاء في ( فسوف تعلمون ) تفريع للإنذار على التوبيخ ، وهو رشيق .
و ( سوف ) تعلمون إنذار بأنهم يعلمون في المستقبل شيئا عظيما ، والعلم كناية عن حصول الأمر الذي يعلم ، أي عن حلول مصائب بهم لا يعلمون كنهها الآن ، وهو إيماء إلى عظمتها وأنها غير مترقبة لهم . وهذا إشارة إلى ما سيصابون به [ ص: 99 ] يوم بدر من الاستئصال والخزي وهم كانوا يستعجلون بعذاب من جنس ما عذب به الأمم الماضية مثل عاد وثمود ، وكانت الغاية واحدة ; فإن إصابتهم بعذاب سيوف المسلمين أبلغ في كون استئصالهم بأيدي المؤمنين مباشرة ، وأظهر في إنجاء المؤمنين من عذاب لا يصيب الذين ظلموا خاصة وذلك هو المراد في قوله تعالى إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون . والبطشة الكبرى : بطشة يوم بدر .