لما ذكر حال المنافقين والذين في قلوبهم مرض من فتنتهم في المسلمين وإذا هم حين مجيء جنود الأحزاب وحين زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر - ثني عنان الكلام الآن إلى حالهم حين ، فأفاد بأن انكشاف الأحزاب حصل على حين غفلة من المنافقين فلذلك كانوا يشتدون في ملام المسلمين ويسلقونهم بألسنة حداد على أن تعرضوا للعدو الكثير ، وكان الله ساعتئذ قد هزم الأحزاب فانصرفوا وكفى الله المؤمنين شرهم ، وليس للمنافقين وساطة في ذلك . أنعم الله على المسلمين بانكشاف جنود الأحزاب عنهم
ولعلهم كانوا لا يودون رجوع الأحزاب دون أن يأخذوا المدينة ، فتكون جملة [ ص: 301 ] يحسبون استئنافا ابتدائيا مرتبطا بقوله اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا إلخ ، جاء عودا على بدء بمناسبة ذكر أحوال المنافقين ، فإن قوله يحسبون الأحزاب لم يذهبوا يؤذن بانهزام الأحزاب ورجوعهم على أعقابهم ، أي وقع ذلك ولم يشعر به المنافقون .
ويجوز أن يكون المعنى : أنهم كانوا يسلقون المؤمنين اعتزازا بالأحزاب لأن الأحزاب حلفاء لقريظة 0 وكان المنافقون أخلاء لليهود فكان سلقهم المسلمين في وقت ذهاب الأحزاب وهم لا يعلمون ذلك ولو علموه لخفضوا من شدتهم على المسلمين ، فتكون جملة يحسبون حالا من ضمير الرفع في سلقوكم أي فعلوا ذلك حاسبين الأحزاب محيطين بالمدينة ومعتزين بهم فظهرت خيبتهم فيما قدروا .
وأما قوله وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب فهو وصف لجبن المنافقين ، أي لو جاء الأحزاب كرة أخرى لأخذ المنافقون حيطتهم فخرجوا إلى البادية بين الأعراب القاطنين حول المدينة وهم غفار وأسلم وغيرهم ، قال تعالى : ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب الآية .
والود هنا مستعمل كناية عن السعي لحصول الشيء المودود لأن الشيء المحبوب لا يمنع من تحصيله إلا مانع قاهر فهو لازم للود .
والبادي : ساكن البادية . وتقدم عند قوله تعالى : سواء العاكف فيه والباد في سورة الحج .
والأعراب : هم سكان البوادي بالأصالة ، أي يودوا الالتحاق بمنازل الأعراب ما لم يعجزوا لما دل عليه قوله عقبه ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا ، أي فلو لم يستطيعوا ذلك فكانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا .
و لو حرف يفيد التمني بعد فعل ود ونحوه . أنشد الجاحظ وعبد القاهر :
يودون لو خاطوا عليك جلودهم ولا تمنع الموت النفوس الشحائح
وتقدم عند قوله تعالى : يود أحدهم لو يعمر ألف سنة في البقرة .والسؤال عن الأنباء لقصد التجسس على المسلمين للمشركين وليسرهم ما عسى أن يلحق المسلمين من الهزيمة .
[ ص: 302 ] ومعنى ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا أنهم إذا فرض أن لا يتمكنوا من الخروج إلى البادية وبقوا في المدينة مع المسلمين ما قاتلوا مع المسلمين إلا قتالا قليلا ، أي ضعيفا لا يؤبه به وإنما هو تعلة ورياء ، وتقدم نظيره آنفا .
والأنباء : جمع نبأ وهو : الخبر المهم ، وتقدم عند قوله تعالى : ولقد جاءك من نبأ المرسلين في سورة الأنعام .
وقرأ الجمهور ( يسألون ) بسكون السين فهمزة ، مضارع ( سأل ) . وقرأ رويس عن يعقوب ( يساءلون ) بفتح السين مشددة وألف بعدها الهمزة ، مضارع تساءل ، وأصله : يتساءلون أدغمت التاء في السين .