والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن
الإشارة إلى شيء مما تقدم وهو أقربه ، فيجوز أن تكون الإشارة إلى معنى التفويض المستفاد من قوله ترجي من تشاء منهن وتئوي إليك من تشاء ، ويجوز أن تكون الإشارة إلى الابتغاء المتضمن له فعل ( ابتغيت ) أي فلا جناح عليك في ابتغائهن بعد عزلهن ذلك أدنى لأن تقر أعينهن . والابتغاء : الرغبة والطلب ، والمراد هنا ابتغاء معاشرة من عزلهن .
فعلى الأول يكون المعنى أن في هذا التفويض جعل الحق في اختيار أحد الأمرين بيد النبيء - صلى الله عليه وسلم - ولم يبق حقا لهن فإذا عين لإحداهن حالة من الحالين رضيته به ؛ لأنه يجعل الله تعالى على حكم قوله وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم فقرت أعين جميعهن بما عينت لكل واحدة ; لأن الذي يعلم أنه لا حق له في شيء كان راضيا بما أوتي منه ، وإن علم أن له حقا حسب أن ما يؤتاه أقل من حقه وبالغ في استيفائه . وهذا التفسير مروي عن قتادة وتبعه ، الزمخشري وابن العربي ، والقرطبي ، وابن عطية ، وهذا يلائم قوله ويرضين ولا يلائم قوله أن تقر أعينهن لأن قرة العين إنما تكون بالأمر المحبوب ، وقوله ولا يحزن لأن الحزن من الأمر المكدر ليس باختياري كما قال النبيء - صلى الله عليه وسلم - . فلا تلمني فيما لا أملك
وعلى الوجه الثاني يكون المعنى : ذلك الابتغاء بعد العزل أقرب لأن تقر أعين اللاتي كنت عزلتهن . ففي هذا الوجه ترغيب للنبي - صلى الله عليه وسلم - في اختيار عدم عزلهن عن القسم وهو المناسب لقوله أن تقر أعينهن ولا يحزن كما علمت آنفا ، ولقوله ويرضين ، ولما فيما ذكر من الحسنات الوافرة التي يرغب النبي - صلى الله عليه وسلم - في تحصيلها لا محالة ، وهي إدخال المسرة على المسلم وحصول الرضا بين المسلمين وهو [ ص: 76 ] مما يعزز الأخوة الإسلامية المرغب فيها . ونقل قريب من هذا المعنى عن ، ابن عباس ومجاهد واختاره وهو الأرجح لأن قرة العين لا تحصل على مضض ولأن الحط في الحق يوجب الكدر . ويؤيده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأخذ إلا به ولم يحفظ عنه أنه آثر إحدى أزواجه بليلة سوى ليلة أبو علي الجبائي التي وهبتها سودة لعائشة استمر ذلك إلى وفاته - صلى الله عليه وسلم - . وقد جاء في الصحيح أنه كان في مرضه الذي توفي فيه يطاف به كل يوم على بيوت أزواجه وكان مبدأ شكواه في بيت ميمونة إلى أن جاءت نوبة ليلة عائشة فأذن له أزواجه أن يمرض في بيتها رفقا به .
وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال حين قسم لهن : ولعل ذلك كان قبل نزول التفويض إليه بهذه الآية . اللهم هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك
وفي قوله ويرضين بما آتيتهن كلهن إشارة إلى أن المراد الرضا الذي يتساوين فيه وإلا لم يكن للتأكيد بـ ( كلهن ) نكتة زائدة فالجمع بين ضميرهن في قوله ( كلهن ) يومئ إلى رضا متساو بينهن .
وضميرا أعينهن ولا يحزن عائدان إلى ( من ) في قوله ممن عزلت . وذكر ولا يحزن بعد ذكر أن تقر أعينهن مع ما في قرة العين من تضمن معنى انتفاء الحزن بالإيماء إلى ترغيب النبيء - صلى الله عليه وسلم - في ابتغاء بقاء جميع نسائه في مواصلته لأن في عزل بعضهن حزنا للمعزولات وهو بالمؤمنين رءوف لا يحب أن يحزن أحدا .
و كلهن توكيد لضمير يرضين أو يتنازعه الضمائر كلها .
والإيتاء : الإعطاء ، وغلب على إعطاء الخير إذا لم يذكر مفعوله الثاني أو ذكر غير معين كقوله فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين ، فإذا ذكر مفعوله الثاني فالغالب أنه ليس بسوء . ولم أره يستعمل في إعطاء السوء فلا تقول : آتاه سجنا وآتاه ضربا ، إلا في مقام التهكم أو المشاكلة ، فما هنا من القبيل الأول ، ولهذا يبعد تفسيره بأنهن ترضين بما أذن الله فيه لرسوله من عزلهن وإرجائهن . وتوجيهه في الكشاف تكلف .
والتذييل بقوله والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما كلام جامع لمعنى الترغيب والتحذير ففيه ترغيب للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الإحسان بأزواجه وإمائه [ ص: 77 ] والمتعرضات للتزوج به ، وتحذير لهن من إضمار عدم الرضا بما يلقينه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وفي إجراء صفتي عليما حكيما على اسم الجلالة إيماء إلى ذلك فمناسبة صفة العلم لقوله والله يعلم ما في قلوبكم ظاهرة ومناسبة صفة الحليم باعتبار أن المقصود ترغيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أليق الأحوال بصفة الحليم لأن همه - صلى الله عليه وسلم - التخلق بخلق الله تعالى ، وقد أجرى الله عليه صفات من صفاته مثل رءوف رحيم . وقالت عائشة رضي الله عنها : . ولهذا لم يأخذ رسول الله بهذا التخير في النساء اللاتي كن في معاشرته ، وأخذ به في الواهبات أنفسهن مع الإحسان إليهن بالقول والبذل فإن الله كتب الإحسان على كل شيء . وأخذ به في ترك التزوج من بنات عمه وعماته وخاله وخالاته لأن ذلك لا حرج فيه عليهن . ما خير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما