وقال ابن عطية عند الكلام على قوله تعالى ولقد آتينا داود منا فضلا لما فرغ التمثيل لمحمد - صلى الله عليه وسلم - رجع التمثيل لهم أي المشركين أي حالهم بسبأ وما كان من هلاكهم بالكفر والعتو اهـ . فهذه القصة تمثيل أمة بأمة ، وبلاد بأخرى ، وذلك من قياس وعبرة . وهي فائدة تدوين التاريخ وتقلبات الأمم كما قال تعالى ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون فسوق هذه القصة تعريض بأشباه سبأ . والمعنى : لقد كان لسبأ في حال مساكنهم ونظام بلادهم آية .
[ ص: 166 ] والآية هنا : الأمارة والدلالة بتبدل الأحوال وتقلب الأزمان ، فهي آية على تصرف الله ونعمته عليهم ، فلم يهتدوا بتلك الآية فأشركوا به وقد كان في إنعامه عليهم ما هو دليل على وجوده ثم على وحدانيته .
والتأكيد بلام القسم وحرف التحقيق لتنزيل المخاطبين بالتعريض بهذه القصة منزلة من يتردد في ذلك لعدم اتعاظهم بحال قوم من أهل بلادهم ، وتجريد ( كان ) من تأنيث الفعل لأن اسمها غير حقيقي للتأنيث ولوقوع الفصل المجرور . واللام في لسبأ متعلق بـ آية . والمساكن : البلاد التي يسكنونها بقرينة قوله جنتان عن يمين وشمال والمساكن : ديار السكنى . وتقدم الكلام على سبأ عند قوله وجئتك من سبأ في سورة النمل . واسم سبأ يطلق على الأمة كما هنا وعلى بلادهم كما في آية النمل وتقدم تفصيله .
وقرأ الجمهور في مساكنهم بصيغة جمع مسكن . وقرأه حمزة والكسائي وحفص وخلف بلفظ المفرد " في مسكنهم " إلا أن حمزة وحفصا فتحا الكاف ، والكسائي وخلفا كسرا الكاف وهو خارج عن القياس لأنه مضارع غير مكسور العين ، فحق اسم المكان منه فتح العين . وشذ نحو قولهم : مسجد لبيت الصلاة . و " جنتان " بدل من " آية " باعتبار تكملته بما اتصل به من المتعلق والقول المقدر وجنتان تشبيه بليغ ، أي في مساكنهم شبيه جنتين في أنه مغترس أشجار ذات ثمر متصل بعضه ببعض مثل ما يعرف من حال الجنات ، وتثنية جنتين باعتبار أن ما على يمين السائر كجنة ، وما على يساره كجنة . وقيل كان لكل رجل في مسكنه - أي داره - جنتان جنة عن يمين المسكن وجنة عن شماله فكانوا يتفوؤون ظلالهما في الصباح والمساء ويجتنون ثمارها من نخيل وأعناب وغيرها ، فيكون معنى التركيب على التوزيع ، أي : لكل مسكن جنتان ، كقولهم : ركب القوم دوابهم ، وهذا مناسب لقوله في مساكنهم دون أن يقول في بلادهم ، أو ديارهم ، ويجوز أن يكون المراد أن مدينتهم وهي مأرب كانت محفوفة [ ص: 167 ] على يمينها وشمالها بغابة من الجنات يصطافون فيها ويستثمرونها مثل غوطة دمشق ، وهذا يناسب قوله بعد وبدلناهم بجنتيهم جنتين لأن ظاهره أن المبدل به جنتان اثنتان ، إلا أن تجعله على التوزيع من مقابلة المتعدد بالمتعدد .
والمعنى : أنهم كانوا أهل جنات مغروسة أشجارا مثمرة وأعنابا .
وكانت مدينتهم مأرب ( بهمزة ساكنة بعد الميم ) وهي بين صنعاء وحضرموت ، قيل كان السائر في طرائقها لو وضع على رأسه مكتلا لوجده قد ملئ ثمارا مما يسقط من الأشجار التي يسير تحتها . ولعل في هذا القول شيئا من المبالغة إلا أنها تؤذن بوفرة . وكان ذلك بسبب تدبير ألهمهم الله إياه في اختزان المياه النازلة في مواسم المطر بما بنوا من السد العظيم في مأرب .
وجملة كلوا من رزق ربكم مقول قول إما من دلالة لسان الحال كما في قوله :
امتلأ الحوض وقال قطني
وإما أبلغوه على ألسنة أنبياء بعثوا منهم قيل بعث فيهم اثنا عشر نبيئا ، أي مثل تبع أسعد ، فقد نقل أنه كان نبيئا كما أشار إليه قوله تعالى وقوم تبع أو غيره ، قال تعالى منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك ، أو من غيرهم مما قاله سليمان بلقيس أو مما قاله الصالحون من رسل سليمان إلى سبأ ، وفي جعل جنتان في نظم الكلام بدلا عن آية كناية عن طيب تربة بلادهم . قيل كانوا يزرعون ثلاث مرات في كل عام .والطيبة : الحسنة في جنسها الملائمة لمزاولها ومستثمرها قال تعالى وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وقال فلنحيينه حياة طيبة وقال والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه وقال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة . وفي أبي طلحة في صدقته بحائط بئر حاء : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب . والطيب ضد الخبيث قال تعالى حديث ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب وقال ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث .
[ ص: 168 ] واشتقاقه من الطيب - بكسر الطاء بوزن فعل - وهو الشيء الذي تعبق منه رائحة لذيذة .
وجملة بلدة طيبة من تمام القول وهي مستأنفة في الكلام المقول ، أي بلدة لكم طيبة ، وتنكير بلدة للتعظيم . وبلدة مبتدأ وطيبة نعت لـ ( بلدة ) ، وخبره محذوف تقديره : لكم ، وعدل عن إضافة بلدة إلى ضميرهم لتكون الجملة خفيفة على اللسان فتكون بمنزلة المثل .
وجملة " ورب غفور " عطف على جملة " بلدة طيبة " .
وتنكير " رب " للتعظيم . وهو مبتدأ محذوف الخبر على وزان " بلدة طيبة " ، والتقدير : ورب لكم ، أي ربكم غفور .
والعدول عن إضافة " رب " لضمير المخاطبين إلى تنكير " رب " وتقدير لام الاختصاص لقصد تشريفهم بهذا الاختصاص ، ولتكون الجملة على وزان التي قبلها طلبا للتخفيف ولتحصل المزاوجة بين الفقرتين فتسيرا مسير المثل .
ومعنى " غفور " : متجاوز عنكم ، أي عن كفرهم الذي كانوا عليه قبل إيمان بلقيس بدين سليمان - عليه السلام - ، ولا يعلم مقدار مدة بقائهم على الإيمان .