والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا هذا عود إلى سوق دلائل الوحدانية بدلالة عليها من أنفس الناس بعد أن قدم لهم ما هو من دلالة الآفاق بقوله " والله الذي أرسل الرياح " . فهذا كقوله : [ ص: 276 ] " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق " وقوله " وفي أنفسكم أفلا تبصرون " فابتدأهم بتذكيرهم بأصل التكوين الأول من تراب وهو ما تقرر علمه لدى جميع البشر من أن أصلهم وهو البشر الأول ، خلق من طين فصار ذلك حقيقة مقررة في علم البشر وهي مما يعبر عنه في المنطق بالأصول الموضوعة القائمة مقام المحسوسات .
ثم استدرجهم إلى التكوين الثاني بدلالة خلق النسل من نطفة ، وذلك علم مستقر في النفوس ، وذلك بمشاهدة الحاضر وقياس الغائب على المشاهد ، فكما يجزم المرء بأن نسله خلق من نطفته يجزم بأنه خلق من نطفة أبويه ، وهكذا يصعد إلى تخلق أبناء آدم وحواء .
والنطفة تقدمت عند قوله تعالى " أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة " في سورة الكهف .
وقوله " ثم جعلكم أزواجا " يشير إلى حالة في التكوين الثاني وهو شرطه من الازدواج . فـ " ثم " عاطفة الجملة فهي دالة على الترتيب الرتبي الذي هو أهم في الغرض أعني دلالة التكوين على بديع صنع الخالق سبحانه فذلك موزع على مضمون قوله " ثم من نطفة " .
والمعنى : ثم من نطفة وقد جعلكم أزواجا لتركيب تلك النطفة ، فالاستدلال بدقة صنع النوع الإنساني من أعظم الدلائل على وحدانية الصانع . وفيها غنية عن النظر في تأمل صنع بقية الحيوان .
والأزواج : جمع زوج وهو الذي يصير بانضمام الفرد إليه زوجا ، أي شافعا ، وقد شاع إطلاقه على صنف الذكور مع صنف الإناث لاحتياج الفرد الذكر من كل صنف إلى أنثاه من صنفه والعكس .