وعبر عن ذلك الحفظ بالإمساك على طريقة التمثيل .
وحقيقة الإمساك : القبض باليد على الشيء بحيث لا ينفلت ولا يتفرق ، فمثل حال بحال استقرار الشيء الذي يمسكه الممسك بيده ، ولما كان في الإمساك معنى المنع عدي إلى الزوال بـ ( من ) وحذفت ، كما هو شأن حروف الجر مع ( أن ) و ( أن ) في الغالب ، وأكد هذا الخبر بحرف التوكيد لتحقيق معناه وأنه لا تسامح فيه ولا مبالغة ، وتقدم عند قوله تعالى حفظ نظام السماوات والأرض ويمسك السماء في سورة الحج . ثم أشير إلى أن شأن الممكنات المصير إلى الزوال والتحول ولو بعد أدهار ، فعطف عليه [ ص: 328 ] قوله ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ، فالزوال المفروض أيضا مراد به اختلال نظامهما الذي يؤدي إلى تطاحنهما .
فالزوال يطلق على العدم ، ويطلق على التحول من مكان إلى مكان ، ومنه زوال الشمس عن كبد السماء ، وتقدم آخر سورة إبراهيم .
وقد اختير هذا الفعل دون غيره لأن المقصود معناه المشترك لأن الله يمسكهما من أن يعدما ، ويمسكهما من أن يتحول نظام حركتهما ، كما قال تعالى لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار . استمرار انتظام حركة الكواكب والأرض على هذا النظام المشاهد المسمى بالنظام الشمسي ، وكذلك نظام الكواكب الأخرى الخارجة عنه إلى فلك الثوابت ، أي إذا أراد الله انقراض تلك العوالم أو بعضها قيض فيها طوارئ الخلل والفساد والخرق بعد الالتئام والفتق بعد الرتق ، فتفككت وانتشرت إلى ما لا يعلم مصيره إلا الله تعالى ، وحينئذ لا يستطيع غيره مدافعة ذلك ولا إرجاعها إلى نظامها السابق فربما اضمحلت أو اضمحل بعضها ، وربما أخذت مسالك جديدة من البقاء . فالله مريد
وفي هذا إيقاظ للبصائر لتعلم ذلك علما إجماليا وتتدبر في اتساق هذا النظام البديع .
فاللام موطئة للقسم . والشرط وجوابه مقسم عليه ، أي محقق تعليق الجواب بالشرط ووقوعه عنده ، وجواب الشرط هو الجملة المنفية بـ ( إن ) النافية وهي أيضا سادة مسد جواب القسم .
وإذ قد تحقق بالجملة السابقة أن الله ممسكهما عن الزوال علم أن زوالهما المفروض لا يكون إلا بإرادة الله تعالى زوالهما ، وإلا لبطل أنه ممسكهما من الزوال .
وأسند فعل زالتا إلى السماوات والأرض على تأويل السماوات بسماء واحدة . وأسند الزوال إليهما للعلم بأن الله هو الذي يزيلهما لقوله إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا .
وجيء في نفي إمساك أحد بحرف ( من ) المؤكدة للنفي تنصيصا على عموم [ ص: 329 ] النكرة في سياق النفي ، أي لا يستطيع أحد كائنا من كان إمساكهما وإرجاعهما .
( ومن بعد ) صفة " أحد " و " من " ابتدائية ، أي أحد ناشئ أو كائن من زمان بعده ، لأن حقيقة " بعد " تأخر زمان " أحد " عن زمن غيره المضاف إليه " بعد " وهو هنا مجاز عن المغايرة بطريق المجاز المرسل ؛ لأن بعدية الزمان المضاف تقتضي مغايرة صاحب تلك البعدية ، كقوله تعالى فمن يهديه من بعد الله ، أي غير الله ، فالضمير المضاف إليه ( بعد ) عائد إلى الله .
وهذا نظير استعمال ( وراء ) بمعنى ( دون ) أو بمعنى ( غير ) أيضا في قول النابغة :
وليس وراء الله للمرء مذهب
وفي ذكر إمساك السماوات عن الزوال بعد الإطناب في تعريض بأن ما يدعون إليه من الفظاعة من شأنه أن يزلزل الأرضين ويسقط السماء كسفا لولا أن الله أراد بقاءهما لحكمة ، كما في قوله تعالى محاجة المشركين وتفظيع غرورهم لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ، وهذه دلالة من مستتبعات التراكيب باعتبار مثار مقامات التكلم بها ، وهو أيضا تعريض بالتهديد .
ولذلك أتبع بالتذييل بوصف الله تعالى بالحلم والمغفرة بما يشمله صفة الحليم من حلمه على المؤمنين أن لا يزعجهم بفجائع عظيمة ، وعلى المشركين بتأخير مؤاخذتهم فإن التأخير من أثر الحلم ، وما تقتضيه صفة الغفور من أن في كما قال النبيء - صلى الله عليه وسلم - الإمهال إعذارا للظالمين لعلهم يرجعون . لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لما رأى ملك الجبال فقال له : إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين
وفعل ( كان ) المخبر به عن ضمير الجلالة مفيد لتقرر الاتصاف بالصفتين الحسنيين .