اعتراض بين الفذلكة المستفادة من جملة تلك الرسل إلى آخرها ، وبين جملة يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم فالواو اعتراضية ، فإن ما جرى من الأمر بالقتال ومن الأمثال التي بينت خصال الشجاعة والجبن وآثارهما ، المقصود منه تشريعا وتمثيلا قتال أهل الإيمان لأهل الكفر لإعلاء كلمة الله ونصر الحق على الباطل وبث الهدى وإزهاق الضلال - بين الله بهذا الاعتراض حجة الذين يقاتلون في سبيل الله على الذين كفروا ، بأن الكافرين هم الظالمون إذ اختلفوا على ما جاءتهم به الرسل ، ولو اتبعوا الحق لسلموا وسالموا .
ثم يجوز أن يكون الضمير المضاف إليه في قوله من بعدهم مرادا به جملة الرسل أي : ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعد أولئك الرسل من الأمم المختلفة في العقائد [ ص: 10 ] مثل اقتتال اليهود والنصارى في اليمن في قصة أصحاب الأخدود ، ومقاتلة الفلسطينيين لبني إسرائيل انتصارا لأصنامهم ، ومقاتلة الحبشة لمشركي العرب انتصارا لبيعة القليس التي بناها الحبشة في اليمن ، والأمم الذين كانوا في زمن الإسلام وناووه وقاتلوا المسلمين أهله ، وهم المشركون الذين يزعمون أنهم على ملة إبراهيم واليهود والنصارى ، ويكون المراد بالبينات دلائل صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - فتكون الآية إنحاء على الذين عاندوا النبيء وناووا المسلمين وقاتلوهم ، وتكون الآية على هذا ظاهرة التفرع على قوله وقاتلوا في سبيل الله واعلموا إلخ .
ويجوز أن يكون ضمير من بعدهم ضمير الرسل على إرادة التوزيع ، أي الذين من بعد كل رسول من الرسل ، فيكون مفيدا أن أمة كل رسول من الرسل اختلفوا واقتتلوا اختلافا واقتتالا نشآ من تكفير بعضهم بعضا كما وقع لبني إسرائيل في عصور كثيرة بلغت فيها طوائف منهم في الخروج من الدين إلى حد عبادة الأوثان ، وكما وقع للنصارى في عصور بلغ فيها اختلافهم إلى حد أن كفر بعضهم بعضا ، فتقاتلت اليهود غير مرة قتالا جرى بين مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل ، وتقاتلت النصارى كذلك من جراء الخلاف بين اليعاقبة والملكية قبل الإسلام ، وأشهر مقاتلات النصارى الحروب العظيمة التي نشأت في القرن السادس عشر من التاريخ المسيحي بين أشياع الكاثوليك وبين أشياع مذهب لوثير الراهب الجرماني الذي دعا الناس إلى إصلاح المسيحية واعتبار أتباع الكنيسة الكاثوليكية كفارا لادعائهم ألوهية المسيح ، فعظمت بذلك حروب بين فرنسا وأسبانيا وجرمانيا وانكلترا وغيرها من دول أوروبا .
والمقصود تحذير المسلمين من الوقوع في مثل ما وقع فيه أولئك ، وقد حذر النبيء - صلى الله عليه وسلم - من ذلك تحذيرا متواترا بقوله في خطبة حجة الوداع يحذرهم ما يقع من حروب الردة وحروب فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض الخوارج بدعوى التكفير ، وهذه الوصية من دلائل النبوة العظيمة .
وورد في الصحيح قوله : ، قيل : يا رسول الله ، هذا القاتل ، فما بال المقتول ؟ قال : أما إنه كان حريصا على قتل أخيه إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار وذلك يفسر بعضه بعضا أنه القتال على اختلاف العقيدة .
[ ص: 11 ] والمراد بالبينات على هذا الاحتمال أدلة الشريعة الواضحة التي تفرق بين متبع الشريعة ومعاندها والتي لا تقبل خطأ الفهم والتأويل ، لو لم يكن دأبهم المكابرة ودحض الدين لأجل عرض الدنيا ، والمعنى أن الله شاء اقتتالهم فاقتتلوا ، وشاء اختلافهم فاختلفوا ، والمشيئة هنا مشيئة تكوين وتقدير لا مشيئة الرضا ؛ لأن الكلام مسوق مساق التمني للجواب والتحسير على امتناعه وانتفائه المفاد بـ ( لو ) كقول طرفة :
فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد
وقوله : ولكن اختلفوا استدراك على ما تضمنه جواب لو شاء الله وهو : ( ما اقتتل ) لكن ذكر في الاستدراك لازم الضد لجواب ( لو ) وهو الاختلاف لأنهم لما اختلفوا اقتتلوا ولو لم يختلفوا لما اقتتلوا ، وإنما جيء بلازم الضد في الاستدراك للإيماء إلى سبب الاقتتال ليظهر أن معنى نفي مشيئة الله تركهم الاقتتال ، هو أنه خلق داعية الاختلاف فيهم ، فبتلك الداعية اختلفوا ، فجرهم الخلاف إلى أقصاه ، وهو الخلاف في العقيدة ، فمنهم من آمن ومنهم من كفر ، فاقتتلوا لأن لزوم الاقتتال لهذه الحالة أمر عرفي شائع ، فإن كان المراد اختلاف أمة الرسول الواحد ، فالإيمان والكفر في الآية عبارة عن خطأ أهل الدين فيه إلى الحد الذي يفضي ببعضهم إلى الكفر به ، وإن كان المراد اختلاف أمم الرسل كل للأخرى كما في قوله وقالت اليهود ليست النصارى على شيء فالإيمان والكفر في الآية ظاهر ، أي : فمنهم من آمن بالرسول الخاتم فاتبعه ومنهم من كفر به فعاداه ، فاقتتل الفريقان .وأيا ما كان المراد من الوجهين فإن قوله فمنهم من آمن ومنهم من كفر ينادي على أن الاختلاف الذي لا يبلغ بالمختلفين إلى كفر بعضهم بما آمن به الآخر لا يبلغ بالمختلفين إلى التقاتل ، لأن فيما أقام الله لهم من بينات الشرع ما فيه كفاية الفصل بين المختلفين في اختلافهم إذا لم تغلب عليهم المكابرة والهوى ، أو لم يعمهم سوء الفهم وقلة الهدى .
لا جرم أن وجعل في تفاوت الذكاء وأصالة الرأي أسبابا لاختلاف قواعد العلوم والمذاهب ، فأسباب الاختلاف إذن مركوزة في الطباع ، ولهذا قال تعالى : الله تعالى جعل في خلقة العقول اختلاف الميول والأفهام ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم [ ص: 12 ] ثم قال : ولكن اختلفوا فصار المعنى لو شاء الله ما اختلفوا ، لكن الخلاف مركوز في الجبلة ، بيد أن الله قد جعل أيضا في العقول أصولا ضرورية قطعية أو ظنية ظنا قريبا من القطع به تستطيع العقول أن تعين الحق من مختلف الآراء ، فما صرف الناس عن اتباعه إلا التأويلات البعيدة التي تحمل عليها المكابرة أو كراهية ظهور المغلوبية ، أو حب المدح من الأشياع وأهل الأغراض ، أو السعي إلى عرض عاجل من الدنيا ، ولو شاء الله ما غرز في خلقة النفوس دواعي الميل إلى هاته الخواطر السيئة فما اختلفوا خلافا يدوم ، ولكن اختلفوا هذا الخلاف ، فمنهم من آمن ومنهم من كفر ، فلا عذر في القتال إلا لفريقين : مؤمن ، وكافر بما آمن به الآخر ; لأن الغضب والحمية الناشئين عن الاختلاف في الدين قد كانا سبب قتال منذ قديم ، أما الخلاف الناشئ بين أهل دين واحد الذي لم يبلغ إلى التكفير فلا ينبغي أن يكون سبب قتال .
ولهذا قال النبيء - صلى الله عليه وسلم - : فقد باء هو بها من قال لأخيه يا كافر لأنه إذا نسب أخاه في الدين إلى الكفر فقد أخذ في أسباب التفريق بين المسلمين وتوليد سبب التقاتل ، فرجع هو بإثم الكفر لأنه المتسبب فيما يتسبب على الكفر ، ولأنه إذا كان يرى بعض أحوال الإيمان كفرا ، فقد صار هو كافرا لأنه جعل الإيمان كفرا ، وقال عليه الصلاة والسلام : فجعل القتال شعار التكفير ، وقد صم المسلمون عن هذه النصيحة الجليلة ، فاختلفوا خلافا بلغ بهم إلى التكفير والقتال ، وأوله خلاف الردة في زمن فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض أبي بكر ، ثم خلاف الحرورية في زمن علي وقد كفروا عليا في قبوله تحكيم الحكمين ، ثم خلاف أتباع المقنع بخراسان الذي ادعى الألوهية واتخذ وجها من ذهب ، وظهر سنة 159 وهلك سنة 163 ، ثم خلاف القرامطة مع بقية المسلمين وفيه شائبة من الخلاف المذهبي لأنهم في الأصل من الشيعة ثم تطرفوا فكفروا وادعوا الحلول أي - حلول الرب في المخلوقات - ، واقتلعوا الحجر الأسود من الكعبة وذهبوا به إلى بلدهم في البحرين ، وذلك من سنة 293 . واختلف المسلمون أيضا خلافا كثيرا في المذاهب جر بهم تارات إلى مقاتلات عظيمة ، وأكثرها حروب الخوارج غير المكفرين لبقية الأمة في المشرق ، ومقاتلات أبي يزيد النكاري الخارجي بالقيروان وغيرها سنة 333 ومقاتلة الشيعة وأهل السنة بالقيروان سنة 407 ، ومقاتلة الشافعية والحنابلة [ ص: 13 ] ببغداد سنة 475 ، ومقاتلة الشيعة وأهل السنة بها سنة 445 ، وأعقبتها حوادث شر بينهم متكررة إلى أن اصطلحوا في سنة 502 وزال الشر بينهم ، وقتال الباطنية المعروفين بالإسماعيلية لأهل السنة في ساوة وغيرها من سنة 494 إلى سنة 523 ، ثم انقلبت إلى مقاتلات سياسية ، ثم انقلبوا أنصارا للإسلام في الحروب الصليبية ، وغير ذلك من المقاتلات الناشئة عن التكفير والتضليل ، لا نذكر غيرها من مقاتلات الدول والأحزاب التي نخرت عظام الإسلام ، وتطرقت كل جهة منه حتى البلد الحرام .
فالآية تنادي على التعجب والتحذير من فعل الأمم في التقاتل للتخالف حيث لم يبلغوا في أصالة العقول أو في سلامة الطوايا إلى الوسائل التي يتفادون بها عن التقاتل فهم ملومون من هذه الجهة ، ومشيرة إلى أن الله تعالى لو شاء لخلقهم من قبل على صفة أكمل مما هم عليه حتى يستعدوا بها إلى الاهتداء إلى الحق وإلى التبصر في العواقب قبل ذلك الإبان ، فانتفاء المشيئة راجع إلى حكمة الخلقة ، واللوم والحسرة راجعان إلى التقصير في امتثال الشريعة ، ولذلك قال : ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد فأعاد ولو شاء الله ما اقتتلوا تأكيدا للأول وتمهيدا لقوله ولكن الله يفعل ما يريد ليعلم الواقف على كلام الله تعالى أن في هدى الله تعالى مقنعا لهم لو أرادوا الاهتداء كما خلق الملائكة ، فالله يخلق ما يشاء ولكنه يكمل حال الخلق بالإرشاد والهدى ، وهم يفرطون في ذلك .