nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=258nindex.php?page=treesubj&link=28973_34002ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين .
جرى هذا الكلام مجرى الحجة على مضمون الجملة الماضية أو المثال لها ، فإنه لما ذكر أن الله يخرج الذين آمنوا من الظلمات إلى النور وأن الطاغوت يخرجون الذين كفروا من النور إلى الظلمات ، ساق ثلاثة شواهد على ذلك هذا أولها وأجمعها ؛ لأنه اشتمل على ضلال الكافر وهدى المؤمن ، فكان هذا في قوة المثال .
والمقصود من هذا تمثيل حال المشركين في مجادلتهم النبيء - صلى الله عليه وسلم - في البعث بحال الذي حاج
إبراهيم في ربه ، ويدل لذلك ما يرد من التخيير في التشبيه في قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=259أو كالذي مر على قرية الآية .
وقد مضى الكلام على تركيب ( ألم تر ) .
والاستفهام في ( ألم تر ) مجازي متضمن معنى التعجيب ، وقد تقدم تفصيل معناه وأصله عند قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=243ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهذا استدلال مسوق لإثبات الوحدانية لله تعالى وإبطال إلاهية غيره لانفراده بالإحياء والإماتة ، وانفراده بخلق العوالم المشهودة للناس ، ومعنى ( حاج ) خاصم ، وهو
[ ص: 32 ] فعل جاء على زنة المفاعلة ، ولا يعرف لـ ( حاج ) في الاستعمال فعل مجرد دال على وقوع الخصام ولا تعرف المادة التي اشتق منها ، ومن العجيب أن الحجة في كلام العرب البرهان المصدق للدعوى مع أن ( حاج ) لا يستعمل غالبا إلا في معنى المخاصمة ، قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=47وإذ يتحاجون في النار مع قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=64إن ذلك لحق تخاصم أهل النار وأن الأغلب أنه يفيد الخصام بباطل ، قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=80وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=20فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله والآيات في ذلك كثيرة ، فمعنى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=258الذي حاج إبراهيم أنه خاصمه خصاما باطلا في شأن صفات الله رب
إبراهيم .
والذي حاج
إبراهيم كافر لا محالة لقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=258فبهت الذي كفر وقد قيل : إنه
نمرود بن فالخ بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن كوش بن حام بن نوح ، فيكون أخا (
رعو ) جد
إبراهيم ، والذي يعتمد أنه ملك جبار ، كان ملكا في
بابل ، وأنه الذي بنى مدينة
بابل ، وبنى الصرح الذي في
بابل ، واسمه
نمرود ، بالدال المهملة في آخره ، ويقال بالذال المعجمة ، ولم تتعرض كتب
اليهود لهذه القصة وهي في المرويات .
والضمير المضاف إليه ( رب ) عائد إلى
إبراهيم ، والإضافة لتشريف المضاف إليه ، ويجوز عوده إلى ( الذي ) والإضافة لإظهار غلطه كقول
ابن زيابة :
نبئت عمرا غارزا رأسه في سنة يوعد أخواله
أي : ما كان من شأن المروءة أن يظهر شرا لأهل رحمه .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=258أن آتاه الله الملك تعليل حذفت منه لام التعليل ، وهو تعليل لما يتضمنه ( حاج ) من الإقدام على هذا الغلط العظيم الذي سهله عنده ازدهاؤه وإعجابه بنفسه ، فهو تعليل محض وليس علة غائية مقصودة للمحاج من حجاجه ، وجوز صاحب الكشاف أن يكون تعليلا غائيا ، أي حاج لأجل أن الله آتاه الملك ، فاللام استعارة تبعية لمعنى يؤدى بحرف غير اللام ، والداعي لهاته الاستعارة التهكم ، أي أنه وضع الكفر موضع الشكر كما في أحد الوجهين في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=82وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون أي : جزاء رزقكم ، وإيتاء الملك مجاز في التفضل عليه بتقدير أن جعله ملكا وخوله ذلك ، ويجيء تفصيل هذا الفعل عند قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=83وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم في سورة الأنعام ، قيل : كان
نمرود أول ملك في الأرض وأول من وضع التاج على رأسه .
[ ص: 33 ] و ( إذ قال ) ظرف لـ ( حاج ) وقد دل هذا على أن
إبراهيم هو الذي بدأ بالدعوة إلى التوحيد واحتج بحجة واضحة يدركها كل عاقل ، وهي أن الرب الحق هو الذي يحيي ويميت فإن كل أحد يعلم بالضرورة أنه لا يستطيع إحياء ميت ، فلذلك ابتدأ إبراهيم الحجة بدلالة عجز الناس عن إحياء الأموات ، وأراد بأن الله يحيي أنه يخلق الأجسام الحية من الإنسان والحيوان وهذا معلوم بالضرورة ، وفي تقديم الاستدلال بخلق الحياة إدماج لإثبات البعث لأن الذي حاج
إبراهيم كان من عبدة الأصنام ، وهم ينكرون البعث ، وذلك موضع العبرة في سياق الآية في القرآن على مسامع أهل الشرك ، ثم أعقبه بدلالة الإماتة ، فإنه لا يستطيع تنهية حياة الحي ، ففي الإحياء والإماتة دلالة على أنهما من فعل فاعل غير البشر ، فالله هو الذي يحيي ويميت ، فالله هو الباقي دون غيره الذين لا حياة لهم أصلا كالأصنام إذ لا يعطون الحياة غيرهم وهم فاقدوها ، ودون من لا يدفع الموت على نفسه مثل هذا الذي حاج
إبراهيم .
وجملة
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=258قال أنا أحيي بيان لـ ( حاج ) والتقدير : حاج
إبراهيم قال أنا أحيي وأميت حين قال له
إبراهيم nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=258ربي الذي يحيي ويميت وقد جاء بمغالطة عن جهل أو غرور في الإحياء والإماتة إذ زعم أنه يعمد إلى من حكم عليه بالموت فيعفو عنه ، وإلى بريء فيقتله ، كذا نقلوه ، ويجوز أن يكون مراده أن الإحياء والإماتة من فعله هو لأن أمرهما خفي لا يقوم عليه برهان محسوس .
وقرأ الجمهور ألف ضمير ( أنا ) بقصر الألف بحيث يكون كفتحة غير مشبعة وذلك استعمال خاص بألف ( أنا ) في العربية ، وقرأه
نافع وأبو جعفر مثلهم إلا إذا وقع بعد الألف همزة قطع مضمومة أو مفتوحة كما هنا ، وكما في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=163وأنا أول المسلمين فيقرأه بألف ممدودة ، وفي همزة القطع المكسورة روايتان
nindex.php?page=showalam&ids=16810لقالون عن
نافع نحو قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=188إن أنا إلا نذير وهذه لغة فصيحة .
وقوله : قال إبراهيم مجاوبة ، فقطعت عن العطف جريا على طريقة حكاية المحاورات وقد عدل
إبراهيم عن الاعتراض بأن هذا ليس من الإحياء المحتج به ولا من الإماتة المحتج بها ، فأعرض عنه لما علم من مكابرة خصمه ، وانتقل إلى ما لا يستطيع الخصم انتحاله ، ولذلك بهت ، أي : عجز ولم يجد معارضة .
[ ص: 34 ] و ( بهت ) فعل مبني للمجهول . يقال : بهته فبهت . بمعنى أعجزه عن الجواب فعجز أو فاجأه بما لم يعرف دفعه .
قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=40بل تأتيهم بغتة فتبهتهم وقال
عروة العذري :
فما هو إلا أن أراها فجاءة فأبهت حتى ما أكاد أجيب
ومنه البهتان وهو الكذب الفظيع الذي يبهت سامعه .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=258والله لا يهدي القوم الظالمين تذييل هو حوصلة الحجة على قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=257الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور وإنما انتفى هدى الله القوم الظالمين ؛ لأن الظلم حائل بين صاحبه وبين التنازل إلى التأمل من الحجج وإعمال النظر فيما فيه النفع إذ الذهن في شاغل عن ذلك بزهوه وغروره .
والآية دليل على جواز
nindex.php?page=treesubj&link=34002_19154المجادلة والمناظرة في إثبات العقائد والقرآن مملوء بذلك ، وأما ما نهي عنه من الجدل فهو جدال المكابرة والتعصب وترويج الباطل والخطأ .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=258nindex.php?page=treesubj&link=28973_34002أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ .
جَرَى هَذَا الْكَلَامُ مَجْرَى الْحُجَّةِ عَلَى مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَاضِيَةِ أَوِ الْمِثَالِ لَهَا ، فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَأَنَّ الطَّاغُوتَ يُخْرِجُونَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ، سَاقَ ثَلَاثَةَ شَوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ هَذَا أَوَّلُهَا وَأَجْمَعُهَا ؛ لِأَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى ضَلَالِ الْكَافِرِ وَهُدَى الْمُؤْمِنِ ، فَكَانَ هَذَا فِي قُوَّةِ الْمِثَالِ .
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَمْثِيلُ حَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي مُجَادَلَتِهِمُ النَّبِيءَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْبَعْثِ بِحَالِ الَّذِي حَاجَّ
إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا يَرِدُ مِنَ التَّخْيِيرِ فِي التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=259أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ الْآيَةَ .
وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى تَرْكِيبِ ( أَلَمْ تَرَ ) .
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي ( أَلَمْ تَرَ ) مَجَازِيٌّ مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى التَّعْجِيبِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ مَعْنَاهُ وَأَصْلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=243أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ مَسُوقٌ لِإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَإِبْطَالِ إِلَاهِيَّةِ غَيْرِهِ لِانْفِرَادِهِ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ ، وَانْفِرَادِهِ بِخَلْقِ الْعَوَالِمِ الْمَشْهُودَةِ لِلنَّاسِ ، وَمَعْنَى ( حَاجَّ ) خَاصَمَ ، وَهُوَ
[ ص: 32 ] فِعْلٌ جَاءَ عَلَى زِنَةِ الْمُفَاعَلَةِ ، وَلَا يُعْرَفُ لِـ ( حَاجَّ ) فِي الِاسْتِعْمَالِ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ دَالٌّ عَلَى وُقُوعِ الْخِصَامِ وَلَا تُعْرَفُ الْمَادَّةُ الَّتِي اشْتُقَّ مِنْهَا ، وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ الْحُجَّةَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْبُرْهَانُ الْمُصَدِّقُ لِلدَّعْوَى مَعَ أَنَّ ( حَاجَّ ) لَا يُسْتَعْمَلُ غَالِبًا إِلَّا فِي مَعْنَى الْمُخَاصَمَةِ ، قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=47وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ مَعَ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=64إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ وَأَنَّ الْأَغْلَبَ أَنَّهُ يُفِيدُ الْخِصَامَ بِبَاطِلٍ ، قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=80وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=20فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ ، فَمَعْنَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=258الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ خَاصَمَهُ خِصَامًا بَاطِلًا فِي شَأْنِ صِفَاتِ اللَّهِ رَبِّ
إِبْرَاهِيمَ .
وَالَّذِي حَاجَّ
إِبْرَاهِيمَ كَافِرٌ لَا مَحَالَةَ لِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=258فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ
نُمْرُودُ بْنُ فَالِخِ بْنِ عَابِرِ بْنِ شَالِحِ بْنِ أَرْفَخَشْدَ بْنِ سَامِ بْنِ كَوْشِ بْنِ حَامِ بْنِ نُوحٍ ، فَيَكُونُ أَخَا (
رَعوَ ) جَدِّ
إِبْرَاهِيمَ ، وَالَّذِي يُعْتَمَدُ أَنَّهُ مَلِكٌ جَبَّارٌ ، كَانَ مَلِكًا فِي
بَابِلَ ، وَأَنَّهُ الَّذِي بَنَى مَدِينَةَ
بَابِلَ ، وَبَنَى الصَّرْحَ الَّذِي فِي
بَابِلَ ، وَاسْمُهُ
نُمْرُودُ ، بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ فِي آخِرِهِ ، وَيُقَالُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ ، وَلَمْ تَتَعَرَّضْ كُتُبُ
الْيَهُودِ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ وَهِيَ فِي الْمَرْوِيَّاتِ .
وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ ( رَبٍّ ) عَائِدٌ إِلَى
إِبْرَاهِيمَ ، وَالْإِضَافَةُ لِتَشْرِيفِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ ، وَيَجُوزُ عَوْدُهُ إِلَى ( الَّذِي ) وَالْإِضَافَةُ لِإِظْهَارِ غَلَطِهِ كَقَوْلِ
ابْنِ زَيَّابَةَ :
نُبِّئْتُ عَمْرًا غَارِزًا رَأْسَهُ فِي سِنَةٍ يُوعِدُ أَخْوَالَهُ
أَيْ : مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمُرُوءَةِ أَنْ يُظْهِرَ شَرًّا لِأَهْلِ رَحِمِهِ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=258أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ تَعْلِيلٌ حُذِفَتْ مِنْهُ لَامُ التَّعْلِيلِ ، وَهُوَ تَعْلِيلٌ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ ( حَاجَّ ) مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى هَذَا الْغَلَطِ الْعَظِيمِ الَّذِي سَهَّلَهُ عِنْدَهُ ازْدِهَاؤُهُ وَإِعْجَابُهُ بِنَفْسِهِ ، فَهُوَ تَعْلِيلٌ مَحْضٌ وَلَيْسَ عِلَّةً غَائِيَّةً مَقْصُودَةً لِلْمُحَاجِّ مِنْ حِجَاجِهِ ، وَجَوَّزَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا غَائِيًّا ، أَيْ حَاجَّ لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ آتَاهُ الْمُلْكَ ، فَاللَّامُ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ لِمَعْنًى يُؤَدَّى بِحَرْفٍ غَيْرِ اللَّامِ ، وَالدَّاعِي لِهَاتِهِ الِاسْتِعَارَةِ التَّهَكُّمُ ، أَيْ أَنَّهُ وَضَعَ الْكُفْرَ مَوْضِعَ الشُّكْرِ كَمَا فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=82وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ أَيْ : جَزَاءَ رِزْقِكُمْ ، وَإِيتَاءُ الْمُلْكِ مَجَازٌ فِي التَّفَضُّلِ عَلَيْهِ بِتَقْدِيرِ أَنْ جَعَلَهُ مَلِكًا وَخَوَّلَهُ ذَلِكَ ، وَيَجِيءُ تَفْصِيلُ هَذَا الْفِعْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=83وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ ، قِيلَ : كَانَ
نُمْرُودُ أَوَّلَ مَلِكٍ فِي الْأَرْضِ وَأَوَّلَ مَنْ وَضَعَ التَّاجَ عَلَى رَأْسِهِ .
[ ص: 33 ] وَ ( إِذْ قَالَ ) ظَرْفٌ لِـ ( حَاجَّ ) وَقَدْ دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ
إِبْرَاهِيمَ هُوَ الَّذِي بَدَأَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَاحْتَجَّ بِحُجَّةٍ وَاضِحَةٍ يُدْرِكُهَا كُلُّ عَاقِلٍ ، وَهِيَ أَنَّ الرَّبَّ الْحَقَّ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ إِحْيَاءَ مَيِّتٍ ، فَلِذَلِكَ ابْتَدَأَ إِبْرَاهِيمُ الْحُجَّةَ بِدَلَالَةِ عَجْزِ النَّاسِ عَنْ إِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ ، وَأَرَادَ بِأَنَّ اللَّهَ يُحْيِي أَنَّهُ يَخْلُقُ الْأَجْسَامَ الْحَيَّةَ مِنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ ، وَفِي تَقْدِيمِ الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الْحَيَاةِ إِدْمَاجٌ لِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ لِأَنَّ الَّذِي حَاجَّ
إِبْرَاهِيمَ كَانَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ ، وَهُمْ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ ، وَذَلِكَ مَوْضِعُ الْعِبْرَةِ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَسَامِعِ أَهْلِ الشِّرْكِ ، ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِدَلَالَةِ الْإِمَاتَةِ ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ تَنْهِيَةَ حَيَاةِ الْحَيِّ ، فَفِي الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمَا مِنْ فِعْلِ فَاعِلٍ غَيْرِ الْبَشَرِ ، فَاللَّهُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ، فَاللَّهُ هُوَ الْبَاقِي دُونَ غَيْرِهِ الَّذِينَ لَا حَيَاةَ لَهُمْ أَصْلًا كَالْأَصْنَامِ إِذْ لَا يُعْطُونَ الْحَيَاةَ غَيْرَهُمْ وَهُمْ فَاقِدُوهَا ، وَدُونَ مَنْ لَا يَدْفَعُ الْمَوْتَ عَلَى نَفْسِهِ مِثْلُ هَذَا الَّذِي حَاجَّ
إِبْرَاهِيمَ .
وَجُمْلَةُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=258قَالَ أَنَا أُحْيِي بَيَانٌ لِـ ( حَاجَّ ) وَالتَّقْدِيرُ : حَاجَّ
إِبْرَاهِيمَ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ حِينَ قَالَ لَهُ
إِبْرَاهِيمُ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=258رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَقَدْ جَاءَ بِمُغَالَطَةٍ عَنْ جَهْلٍ أَوْ غُرُورٍ فِي الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ إِذْ زَعَمَ أَنَّهُ يَعْمِدُ إِلَى مَنْ حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ فَيَعْفُو عَنْهُ ، وَإِلَى بَرِيءٍ فَيَقْتُلُهُ ، كَذَا نَقَلُوهُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّ الْإِحْيَاءَ وَالْإِمَاتَةَ مِنْ فِعْلِهِ هُوَ لِأَنَّ أَمْرَهُمَا خَفِيٌّ لَا يَقُومُ عَلَيْهِ بُرْهَانٌ مَحْسُوسٌ .
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَلِفَ ضَمِيرِ ( أَنَا ) بِقَصْرِ الْأَلِفِ بِحَيْثُ يَكُونُ كَفَتْحَةٍ غَيْرِ مُشْبَعَةٍ وَذَلِكَ اسْتِعْمَالٌ خَاصٌّ بِأَلِفِ ( أَنَا ) فِي الْعَرَبِيَّةِ ، وَقَرَأَهُ
نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ مِثْلَهُمْ إِلَّا إِذَا وَقَعَ بَعْدَ الْأَلِفِ هَمْزَةُ قَطْعٍ مَضْمُومَةٌ أَوْ مَفْتُوحَةٌ كَمَا هُنَا ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=163وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْرَأهُ بِأَلِفٍ مَمْدُودَةٍ ، وَفِي هَمْزَةِ الْقَطْعِ الْمَكْسُورَةِ رِوَايَتَانِ
nindex.php?page=showalam&ids=16810لِقَالُونَ عَنْ
نَافِعٍ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=188إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَهَذِهِ لُغَةٌ فَصَيْحَةٌ .
وَقَوْلُهُ : قَالَ إِبْرَاهِيمُ مُجَاوَبَةٌ ، فَقُطِعَتْ عَنِ الْعَطْفِ جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ وَقَدْ عَدَلَ
إِبْرَاهِيمُ عَنِ الِاعْتِرَاضِ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْإِحْيَاءِ الْمُحْتَجِّ بِهِ وَلَا مِنَ الْإِمَاتَةِ الْمُحْتَجِّ بِهَا ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ لِمَا عَلِمَ مِنْ مُكَابَرَةِ خَصْمِهِ ، وَانْتَقَلَ إِلَى مَا لَا يَسْتَطِيعُ الْخَصْمُ انْتِحَالَهُ ، وَلِذَلِكَ بُهِتَ ، أَيْ : عَجَزَ وَلَمْ يَجِدْ مُعَارَضَةً .
[ ص: 34 ] وَ ( بُهِتَ ) فِعْلٌ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ . يُقَالُ : بَهَتَهُ فَبُهِتَ . بِمَعْنَى أَعْجَزَهُ عَنِ الْجَوَابِ فَعَجَزَ أَوْ فَاجَأَهُ بِمَا لَمْ يَعْرِفْ دَفْعَهُ .
قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=40بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ وَقَالَ
عُرْوَةُ الْعُذْرِيُّ :
فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ أَرَاهَا فُجَاءَةً فَأُبْهَتَ حَتَّى مَا أَكَادُ أُجِيبُ
وَمِنْهُ الْبُهْتَانُ وَهُوَ الْكَذِبُ الْفَظِيعُ الَّذِي يَبْهَتُ سَامِعَهُ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=258وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تَذْيِيلٌ هُوَ حَوْصَلَةُ الْحُجَّةِ عَلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=257اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّمَا انْتَفَى هُدَى اللَّهِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ حَائِلٌ بَيْنَ صَاحِبِهِ وَبَيْنَ التَّنَازُلِ إِلَى التَّأَمُّلِ مِنَ الْحُجَجِ وَإِعْمَالِ النَّظَرِ فِيمَا فِيهِ النَّفْعُ إِذِ الذِّهْنُ فِي شَاغِلٍ عَنْ ذَلِكَ بِزَهْوِهِ وَغُرُورِهِ .
وَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ
nindex.php?page=treesubj&link=34002_19154الْمُجَادَلَةِ وَالْمُنَاظَرَةِ فِي إِثْبَاتِ الْعَقَائِدِ وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِذَلِكَ ، وَأَمَّا مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنَ الْجَدَلِ فَهُوَ جِدَالُ الْمُكَابَرَةِ وَالتَّعَصُّبِ وَتَرْوِيجِ الْبَاطِلِ وَالْخَطَأِ .