" ويوم نحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء " .
لما فرغ من موعظة المشركين بحال الأمم المكذبة من قبلهم وإنذارهم بعذاب يحل بهم في الدنيا كما حل بأولئك ليكون لهم ذلك عبرة فإن لاستحضار المثل والنظائر أثرا في النفس تعتبر به ما لا تعتبر بتوصف المعاني العقلية ، انتقل إلى إنذارهم بما سيحل بهم في الآخرة فجملة " ويوم نحشر أعداء الله " الآيات ، معطوفة على جملة فقل أنذرتكم صاعقة الآيات . والتقدير : وأنذرهم يوم نحشر أعداء الله إلى النار . ودل على هذا المقدر قوله أنذرتكم صاعقة إلخ ، أي وأنذرهم يوم عقاب الآخرة .
وأعداء الله : هم مشركو قريش لأنهم أعداء رسوله - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء يعني المشركين لقوله بعده يخرجون الرسول وإياكم ، ولأنها نزلت في قضية كتاب إلى حاطب بن أبي بلتعة قريش يعلمهم بتهيؤ النبيء - صلى الله عليه وسلم - لغزو مكة ولقوله في آخر هذه الآيات ذلك جزاء أعداء الله بعد قوله وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون .
[ ص: 265 ] ولا يجوز أن يكون المراد بـ أعداء الله جميع الكفار من الأمم بحيث يدخل المشركون من قريش دخول البعض في العموم لأن ذلك المحمل لا يكون له موقع رشيق في المقام ؛ لأن الغرض من ذكر ما أصاب عادا وثمود هو تهديد مشركي مكة بحلول عذاب مثله في الدنيا ؛ لأنهم قد علموه ورأوا آثاره فللتهديد بمثله موقع لا يسعهم التغافل عنه ، وأما عذاب عاد وثمود في الآخرة فهو موعود به في المستقبل وهم لا يؤمنون به فلا يناسب أن يجعل موعظة لقريش بل الأجدر أن يقع إنذار قريش رأسا بعذاب يعذبونه في الآخرة ، ولذلك أطيل وصفه لتهويله ما لم يطل بمثله حين التعرض لعذاب عاد في الآخرة بقوله ( ولعذاب الآخرة أخزى ) المكتفى به عن ذكر عذاب ثمود . ولهذا فليس في قوله ( أعداء الله ) إظهار في مقام الإضمار من ضمير عاد وثمود .
ويجوز أن يكون " ويوم نحشر أعداء الله " مفعولا لفعل " واذكر " محذوفا مثل نظائره الكثيرة .
والحشر : جمع الناس في مكان لمقصد .
ويتعلق قوله إلى النار بـ " نحشر " لتضمين " نحشر " معنى : نرسل ، أي نرسلهم إلى النار .
والفاء في قوله فهم يوزعون عطف وتفريع على " نحشر " لأن الحشر يقتضي الوزع إذ هو من لوازمه عرفا ، إذ الحشر يستلزم كثرة عدد المحشورين ، وكثرة العدد تستلزم الاختلاط وتداخل بعضهم في بعض فلا غنى لهم عن الوزع لتصفيفهم ورد بعضهم عن بعض .
والوزع : كف بعضهم عن بعض ومنعهم من الفوضى ، وتقدم في سورة النمل ، وهو كناية عن كثرة المحشورين .
وقرأ نافع ، ويعقوب " نحشر " بنون العظمة مبنيا للفاعل ونصب " أعداء " ، وقرأه الباقون بياء الغائب مبنيا للنائب .
وحتى ابتدائية وهي مفيدة لمعنى الغاية فهي حرف انتهاء في المعنى وحرف [ ص: 266 ] ابتداء في اللفظ ، أي أن ما بعدها جملة مستأنفة .
وإذا ظرف للمستقبل متضمن معنى الشرط وهو متعلق بجوابه ، وما زائدة للتوكيد بعد إذا تفيد توكيد معنى إذا من الارتباط بالفعل الذي بعد إذا سواء كانت شرطية كما في هذه الآية أم كانت لمجرد الظرفية كقوله تعالى وإذا ما غضبوا هم يغفرون ، ويظهر أن ورود ما بعد إذا يقوي معنى الشرط في إذا ، ولعله يكون معنى الشرط حينئذ نصا احتمالا .
وضمير المؤنث الغائب في جاءوها عائد إلى النار ، أي إذا وصلوا إلى جهنم .
وجملة شهد عليهم سمعهم وأبصارهم إلخ يقتضي كلام المفسرين أنها جواب إذا ، فاقتضى الارتباط بين شرطها وجوابها وتعليقها بفعل الجواب . واستشعروا أن الشهادة عليهم تكون قبل أن يوجهوا إلى النار ، فقدروا فعلا محذوفا تقديره : وسئلوا عما كانوا يفعلون فأنكروا فشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم ، يعني : سألهم خزنة النار .
وأحسن من ذلك أن نقول : إن جواب إذا محذوف للتهويل ، وحذف مثله كثير في القرآن ، ويكون جملة شهد عليهم سمعهم إلى آخرها مستأنفة استئنافا بيانيا نشأ عن مفاد حتى من الغاية لأن السائل يتطلب ماذا حصل بين حشرهم إلى النار وبين حضورهم عند النار فأجيب بأنه شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم إلى قوله الذي أنطق كل شيء ويتضمن ذلك أنهم حوسبوا على أعمالهم وأنكروها فشهدت عليهم جوارحهم وأجسادهم .
أو أن يكون جواب إذا قوله فإن يصبروا فالنار مثوى لهم إلخ .
وجملة شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وما عطف عليها معترضة بين الشرط وجوابه .
وشهادة جوارحهم وجلودهم عليهم : شهادة تكذيب وافتضاح لأن كون ذلك شهادة يقتضي أنهم لما رأوا النار اعتذروا بإنكار بعض ذنوبهم طمعا في تخفيف [ ص: 267 ] العذاب وإلا فقد علم الله ما كانوا يصنعون وشهدت به الحفظة ، وقرئ عليهم كتابهم ، وما أحضروا للنار إلا وقد تحققت إدانتهم ، فما كانت شهادة جوارحهم إلا زيادة خزي لهم وتحسيرا وتنديما على سوء اعتقادهم في سعة علم الله .
وتخصيص السمع والأبصار والجلود بالشهادة على هؤلاء دون بقية الجوارح لأن للسمع اختصاصا بتلقي دعوة النبيء - صلى الله عليه وسلم - وتلقي آيات القرآن ، فسمعهم يشهد عليهم بأنهم كانوا يصرفونه عن سماع ذلك كما حكى الله عنهم بقوله وفي آذاننا وقر ، ولأن للأبصار اختصاصا بمشاهدة دلائل المصنوعات الدالة على انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير فذلك دليل وحدانيته في إلهيته ، وشهادة الجلود لأن الجلد يحوي جميع الجسد لتكون شهادة الجلود عليهم شهادة على أنفسها فيظهر استحقاقها للحرق بالنار لبقية الأجساد دون اقتصار على حرق موضع السمع والبصر .
ولذلك اقتصروا في توجيه الملامة على جلودهم لأنها حاوية لجميع الحواس والجوارح ، وبهذا يظهر وجه الاقتصار على هنا بخلاف آية سورة النور شهادة السمع والأبصار والجلود يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ، لأن آية النور تصف الذين يرمون المحصنات وهم الذين اختلقوا تهمة الإفك ومشوا في المجامع يشيعونها بين الناس ويشيرون بأيديهم إلى من اتهموه إفكا .
وإنما قالوا لجلودهم لم شهدتم علينا دون أن يقولوه لسمعهم وأبصارهم لأن الجلود مواجهة لهم يتوجهون إليها بالملامة .
وإجراء ضمائر السمع والبصر والجلود بصيغتي ضمير جمع العقلاء لأن التحاور معها صيرها بحالة العقلاء يومئذ . ومن غريب التفسير قول من زعموا أن الجلود أريد بها الفروج ، ونسب هذا للسدي ، وهو تعنت في محمل الآية لا داعي إليه بحال ، وعلى هذا التفسير بنى والفراء أحمد الجرجاني في كتاب كنايات الأدباء فعد الجلود من الكنايات عن الفروج وعزاه لأهل التفسير فجازف في التعبير .
والاستفهام في قولهم لم شهدتم علينا مستعمل في الملامة وهم يحسبون أن [ ص: 268 ] جلودهم لكونها جزءا منهم لا يحق لهم شهادتها عليهم لأنها تجر العذاب إليها .
واستعمال الاستفهام عن العلة في معرض التوبيخ كثير كقوله تعالى فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم .
وقول الجلود أنطقنا الله اعتذار بأن الشهادة جرت منها بغير اختيار .
وهذا النطق من خوارق العادات كما هو شأن العالم الأخروي . وقولهم الذي أنطق كل شيء تمجيد لله تعالى ، ولا علاقة له بالاعتذار ، والمعنى : الذي أنطق كل شيء له نطق من الحيوان ، واختلاف دلالة أصواتها على وجدانها ، فعموم كل شيء مخصوص بالعرف .