لما جرى وعيد الذين يحاجون في الله لتأييد باطلهم من قوله تعالى : والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد . ثم أتبع بوصف سوء حالهم يوم الجزاء بقوله : ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا ، وقوبل بوصف نعيم الذين آمنوا بقوله : والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات ، وكان ذلك مظنة أن يكسر نفوس أهل [ ص: 89 ] العناد والضلالة - أعقب بإعلامهم أن الله من شأنه قبول توبة من يتوب من عباده ، وعفوه بذلك عما سلف من سيئاتهم .
وهذا الإخبار تعريض بالتحريض على مبادرة التوبة ولذلك جيء فيه بالفعل المضارع الصالح للاستقبال . وهو أيضا بشارة للمؤمنين بأنه قبل توبتهم مما كانوا فيه من الشرك والجاهلية فإن الذي من شأنه أن يقبل التوبة في المستقبل يكون قد قبل توبة التائبين من قبل ، بدلالة لحن الخطاب أو فحواه ، وأن من شأنه الاستجابة للذين آمنوا وعملوا الصالحات من عباده . وكل ذلك جري على عادة القرآن في تعقيب الترهيب بالترغيب وعكسه . وهذا كله يتضمن وعدا للمؤمنين بقبول إيمانهم وللعصاة بقبول توبتهم .
فجملة : وهو الذي يقبل التوبة عن عباده معطوفة على جملة وإن الظالمين لهم عذاب أليم وما اتصل بها مما تقدم ذكره وخاصة جملة : ويمح الله الباطل .
وابتناء الإخبار بهذه الجملة على أسلوب الجملة الاسمية لإفادتها ثبات حكمها ودوامه .
ومجيء المسند اسم موصول لإفادة اتصاف الله تعالى بمضمون صلته وأنها شأن من شئون الله تعالى عرف به ثابت له لا يتخلف لأنه المناسب لحكمته وعظمة شأنه وغناه عن خلقه .
وإيثار جملة الصلة بصيغة المضارع لإفادة تجدد مضمونه وتكرره ليعلموا أن ذلك وعد لا يتخلف ولا يختلف .
وفعل ( قبل ) يتعدى بـ ( من ) الابتدائية تارة كما في قوله : وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم وقوله : فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ، فيفيد معنى الأخذ للشيء المقبول صادرا من المأخوذ منه ، ويعدى بـ ( عن ) فيفيد معنى مجاوزة الشيء المقبول أو انفصاله عن معطيه وباذله ، وهو أشد مبالغة في معنى الفعل من تعديته بحرف ( من ) لأن فيه كناية عن احتباس الشيء المبذول عند المبذول إليه بحيث لا يرد على باذله .
[ ص: 90 ] فحصلت في جملة وهو الذي يقبل التوبة عن عباده أربع مبالغات : بناء الجملة على الاسمية ، وعلى الموصولية ، وعلى المضارعية ، وعلى تعدية فعل الصلة بـ ( عن ) دون ( من ) .
والتوبة : الإقلاع عن فعل المعصية امتثالا لطاعة الله ، وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه في سورة البقرة . وقبول التوبة منة من الله تعالى لأنه لو شاء لما رضي عن الذي اقترف الجريمة ولكنه جعلها مقبولة لحكمته وفضله .
وفي ذكر اسم العباد دون نحو : الناس أو التائبين أو غير ذلك ، إيماء إلى أن الله رفيق بعباده لمقام العبودية فإن الخالق والصانع يحب صلاح مصنوعه .
والعفو : عدم مؤاخذة الجاني بجنايته . والسيئات : الجرائم لأنها سيئة عند الشرع . بأن يعفو عن السيئات التي اقترفها العاصي قبل توبته ، ويكون بدون ذلك مثل العفو عن السيئات عقب الحج المبرور ، ومثل العفو عن السيئات لأجل الشهادة في سبيل الله ، ومثل العفو عن السيئات لكثرة الحسنات بأن يمحى عن العاصي من سيئاته ما يقابل مقدارا من حسناته على وجه يعلمه الله تعالى ، ومثل العفو عن الصغائر باجتناب الكبائر . والعفو عن السيئات يكون بسبب التوبة
والتعريف في ( السيئات ) تعريف الجنس المراد به الاستغراق وهو عام مخصوص بغير الشرك . قال تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ولك أن تجعله عوضا عن المضاف إليه ، أي عن سيئات عباده فيعم جميع العباد عموما مخصوصا بالأدلة لهذا الحكم كما في الوجه الأول .
وجملة ويعلم ما يفعلون معترضة بين المتعاطفات أو في موضع الحال ، والمقصود : أنه لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده خيرها وشرها .
وقرأ الجمهور ( ما يفعلون ) بياء الغيبة ، أي ما يفعل عباده . وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بتاء الخطاب على طريقة الالتفات .
والاستجابة : مبالغة في الإجابة ، وخصت الاستجابة في الاستعمال بامتثال الدعوة أو الأمر .
[ ص: 91 ] وظاهر النظم أن فاعل ( يستجيب ) ضمير يعود إلى ما عاد إليه ضمير وهو الذي يقبل التوبة و أن الذين آمنوا مفعول ( يستجيب ) وأن الجملة معطوفة على جملة يقبل التوبة .
والغالب في الاستعمال أن يقال : استجاب له ، كقوله : ادعوني أستجب لكم وقد يحذفون اللام فيعدونه بنفسه ، كقول كعب بن سعد :
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا فلم يستجبه عند ذاك مجـيب
والمعنى : أن الله يستجيب لهم ما يرجونه منه من ثواب ، وما يدعونه .
ويجوز أن يكون الذين آمنوا فاعل ( يستجيب ) أي يستجيبون لله فيطيعونه وتكون جملة ( ويستجيب ) عطفا على مجموع جملة وهو الذي يقبل التوبة ، أي ذلك شأنه وهذا شأن عباده المؤمنين .
ومعنى ويزيدهم من فضله على الوجهين أنه يعطيهم ما أملوا من دعائهم وعملهم وأعظم مما أملوا حين استجابوا له ولرسوله ، وأنه يعطيهم من الثواب أكثر مما عملوا من الصالحات إذ جعل لهم الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف كما في الحديث ، وأنه يعطيهم من خير الدنيا ما لم يسألوه إياه ، كل ذلك لأنه لطيف بهم ومدبر لمصالحهم .
ولما كانت الاستجابة والزيادة كرامة للمؤمنين ، أظهر اسم الذين آمنوا وجيء به موصولا للدلالة على أن الإيمان هو وجه الاستجابة لهم والزيادة لهم .
وجملة والكافرون لهم عذاب شديد اعتراض عائد إلى ما سبق من قوله : ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم توكيدا للوعيد وتحذيرا من الدوام على الكفر بعد فتح باب التوبة لهم .