كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك
استئناف ابتدائي مسوق للعبرة بعواقب الظالمين المغرورين بما هم فيه من النعمة والقوة ، غرورا أنساهم مراقبة الله فيما يرضيه ، فموقع هذا الاستئناف موقع النتيجة من الدليل أو البيان من الإجمال لما في قوله ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون من التنظير الإجمالي .
وضمير تركوا عائد إلى ما عاد إليه ضمير إنهم جند مغرقون .
والترك حقيقته : إلقاء شيء في مكان متنقل عنه إبقاء اختياريا ، ويطلق مجازا على مفارقة المكان والشيء الذي في مكان غلبة دون اختيار وهو مجاز مشهور يقال : ترك الميت مالا ، ومنه سمي مخلف الميت تركة وهو هنا من هذا القبيل .
وفعل " تركوا " مؤذن بأنهم أغرقوا وأعدموا ، وذلك مقتضى أن ما أمر الله به موسى من الإسراء ببني إسرائيل وما معه من اتباع فرعون إياهم وانفلاق البحر [ ص: 302 ] وإزلاف بني إسرائيل واقتحام فرعون بجنوده البحر ، وانضمام البحر عليهم قد تم ، ففي الكلام إيجاز حذف جمل كثيرة يدل عليها " كم تركوا " .
و ( كم ) اسم لعدد كثير مبهم يفسر نوعه مميز بعد ( كم ) مجرور بـ ( من ) مذكورة أو محذوفة .
وحكم ( كم ) كالأسماء تكون على حسب العوامل . وإذ كان لها صدر الكلام لأنها في الأصل استفهام فلا تكون خبر مبتدأ ولا خبر ( كان ) ولا ( إن ) وإذا كانت معمولة للأفعال وجب تقديمها على عاملها .
وانتصب ( كم ) هنا على المفعول به لـ " تركوا " أي تركوا كثيرا من جنات . و ( من ) مميزة لمبهم العدد في ( كم ) .
والمقام بفتح الميم : مكان القيام ، والقيام هنا مجاز في معنى التمكن من المكان .
والكريم من كل نوع أنفسه وخيره ، والمراد به : المساكن والديار والأسواق ونحوها مما كان لهم في مدينة ( منفسين ) .
والنعمة بفتح النون : اسم للتنعم مصوغ على وزنة المرة . وليس المراد به المرة بل مطلق المصدر باعتبار أن مجموع أحوال النعيم صار كالشيء الواحد وهو أبلغ وأجمع في تصوير معنى المصدر ، وهذا هو المناسب لفعل تركوا لأن المتروك هو أشخاص الأمور التي ينعم بها وليس المتروك وهو المعنى المصدري .
و " فاكهين " متصفين بالفكاهة بضم الفاء وهي اللعب والمزح ، أي كانوا مغمورين في النعمة لاعبين في تلك النعمة .
وقرأ الجمهور " فاكهين " بصيغة اسم الفاعل . وقرأه حفص وأبو جعفر " فكهين " بدون ألف على أنه صفة مشبهة .
وقوله كذلك راجع لفعل " تركوا " . والتقدير : تركا مثل ذلك الترك .
والإشارة إلى مقدر دل عليه الكلام ومعنى الكاف ، وهذا التركيب تقدم الكلام عليه عند قوله كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا في سورة الكهف .