هذا استخلاص لموعظة المشركين بمثل عاد ، ليعلموا أن ، وليعلموا أن القوم كانوا مثلهم مستجمعين قوى العقل والحس وأنهم أهملوا الانتفاع بقواهم فجحدوا بآيات الله [ ص: 52 ] واستهزءوا بها وبوعيده فحاق بهم ما كانوا يستهزئون به ، الذي قدر على إهلاك عاد قادر على إهلاك من هم دونهم في القوة والعدد وقريش يعلمون أن حالهم مثل الحال المحكية عن أولئك فليتهيئوا لما سيحل بهم .
ولإفادة هذا الاستخلاص غير أسلوب الكلام إلى خطاب المشركين من أهل مكة ، فالجملة في موضع الحال من واو الجماعة في قالوا أجئتنا والخبر مستعمل في التعجيب من عدم انتفاعهم بمواهب عقولهم .
وتأكيد هذا الخبر بلام القسم مع أن مفاده لا شك فيه مصروف إلى المبالغة في التعجيب .
والتمكين : إعطاء المكنة بفتح الميم وكسر الكاف وهي القدرة والقوة . يقال : مكن من كذا وتمكن منه ، إذا قدر عليه . ويقال : مكنه في كذا ، إذا جعل له القدرة على مدخول حرف الظرفية فيفسر بما يليق بذلك الظرف قال تعالى مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم في سورة الأنعام .
فالمعنى : جعلنا لهم القدرة في الذي لم نمكنكم فيه ، أي من كل ما يمكن فيه الأقوام والأمم ، وتقدم عند قوله تعالى ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض في أول الأنعام فضم إليه ما هنا .
و ( ما ) من قوله فيما موصولة . و ( إن ) نافية ، أي في الذي ما مكناكم فيه .
ومعنى مكناكم فيه : مكناكم في مثله أو في نوعه فإن الأجناس والأنواع من الذوات حقائق معنوية لا تتغير مواهبها وإنما تختلف بوجودها في الجزئيات ، فلذلك حسن تعدية فعل مكناكم بحرف الظرفية إلى ضمير اسم الموصول الصادق على الأمور التي مكنت منها عاد .
ومن بديع النظم أن جاء النفي هنا بحرف ( إن ) النافية مع أن النفي بها أقل استعمالا من النفي بـ ( ما ) النافية قصدا هنا لدفع الكراهة من توالي مثلين في النطق ، وهما ( ما ) الموصولة و ( ما ) النافية وإن كان معناهما مختلفا ، ألا ترى أن العرب عوضوا الهاء عن الألف في ( مهما ) ، فإن أصلها : ( ما ما ) مركبة من ( ما ) [ ص: 53 ] الظرفية و ( ما ) الزائدة لإفادة الشرط مثل ( أينما ) . قال في الكشاف : ولقد أغث أبو الطيب في قوله :
لعمرك ما ما بان منك لضارب
وأقول ولم يتعقب ولا غيره ممن شرح الديوان من قبل على ابن جني وقد وقع مثله في ضرورات شعر المتقدمين كقول المتنبي خطام المجاشعي :
وصاليات ككما يؤثفين
ولا يغتفر مثله للمولدين .
فأما إذا كانت ( ما ) نافية وأراد المتكلم تأكيدها تأكيدا لفظيا ، فالإتيان بحرف ( إن ) بعد ( ما ) أحرى كما في قول النابغة :
رماد ككحل العين ما إن أبينـه ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع
وإفراد السمع دون الأبصار والأفئدة للوجه الذي تقدم في قوله قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم في سورة الأنعام ، وقوله أمن يملك السمع والأبصار في سورة يونس .
و ( من ) في قوله " من شيء " زائدة للتنصيص على انتفاء الجنس فلذلك يكون " شيء " المجرور بـ ( من ) الزائدة نائبا عن المفعول المطلق لأن المراد بشيء من الإغناء ، وحق شيء النصب وإنما جر بدخول حرف الجر الزائد .
[ ص: 54 ] و ( إذ ) ظرف ، أي مدة جحودهم وهو مستعمل في التعليل لاستواء مؤدى الظرف ومؤدى التعليل لأنه لما جعل الشيء من الإغناء معلقا نفيه بزمان جحدهم بآيات الله كما يستفاد من إضافة ( إذ ) إلى الجملة بعدها ، علم أن لذلك الزمان تأثيرا في نفي الإغناء .
من معجزات رسولهم ، ومن البراهين الدالة على صدق ما دعاهم إليه . وآيات الله دلائل إرادته
وقد انطبق مثالهم على حال المشركين فإنهم جحدوا بآيات الله وهي آيات القرآن لأنها جمعت حقيقة الآيات بالمعنيين .
وحاق بهم : أحاط بهم و ما كانوا به يستهزئون العذاب ، عدل عن اسمه الصريح إلى الموصول للتنبيه على ضلالهم وسوء نظرهم .