قد ذكرنا أن هذه السورة أنزلت بالمدينة وقد بدت قرون نفاق المنافقين ، فلما جرى في هذه السورة وصف حال المنافقين أعقب ذلك بوصف أجلى مظاهر نفاقهم ، وذلك حين يدعى المسلمون إلى الجهاد فقد يضيق الأمر بالمنافقين إذ كان تظاهرهم بالإسلام سيلجئهم إلى الخروج للقتال مع المسلمين ، وذلك أمر ليس بالهين لأنه تعرض لإتلافهم النفوس دون أن يرجوا منه نفعا في الحياة الأبدية إذ هم لا يصدقون بها فيصبحوا في حيرة . وكان حالهم هذا مخالفا لحال الذين آمنوا الذي تمنوا أن ينزل القرآن بالدعوة إلى القتال ليلاقوا المشركين فيشفوا منهم غليلهم ، فبهذه المناسبة حكي تمني المؤمنين نزول حكم القتال لأنه يلوح به تمييز حال المنافقين ، ويبدو منه الفرق بين حال الفريقين وقد بين كره القتال لديهم في سورة براءة .
فالمقصود من هذه الآية هو قوله فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض الآية ، وما قبله توطئة له بذكر سببه ، وأفاد تقديمه [ ص: 107 ] أيضا تنويها بشأن الذين آمنوا ، وأفاد ذكره مقابلة بين حالي الفريقين جريا على سنن هذه السورة . ومقال الذين آمنوا هذا كان سببا في نزول قوله - تعالى - فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ، ولذلك فالمقصود من السورة التي ذكر فيها القتال هذه السورة التي نحن بصددها .
ومعلوم أن قول المؤمنين هذا واقع قبل نزول هذه الآية فالتعبير عنه بالفعل المضارع : إما لقصد استحضار الحالة مثل ويصنع الفلك ، وإما للدلالة على أنهم مستمرون على هذا القول .
وتبعا لذلك تكون ( إذا ) في قوله فإذا أنزلت سورة ظرفا مستعملا في الزمن الماضي لأن نزول السورة قد وقع ، ونظر المنافقين إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا النظر قد وقع إذ لا يكون ذمهم وزجرهم قبل حصول ما يوجبه فالمقام دال والقرينة واضحة .
و ( لولا ) حرف مستعمل هنا في التمني ، وأصل معناه التخصيص فأطلق وأريد به التمني لأن التمني يستلزم الحرص والحرص يدعو إلى التحضيض .
وحذف وصف " سورة " في حكاية قولهم لولا نزلت سورة لدلالة ما بعده عليه من قوله وذكر فيها القتال لأن قوله فإذا أنزلت سورة ، أي كما تمنوا اقتضى أن المسئول سورة يشرع فيها قتال المشركين . فالمعنى : لولا نزلت سورة يذكر فيها القتال وفرضه ، فحذف الوصف إيجازا .
ووصف السورة بـ " محكمة " باعتبار وصف آياتها بالإحكام ، أي عدم التشابه وانتفاء الاحتمال كما دلت عليه مقابلة المحكمات بالمتشابهات في قوله منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات في سورة آل عمران ، أي لا تحتمل آيات تلك السورة المتعلقة بالقتال إلا وجوب القتال وعدم الهوادة فيه ، مثل قوله فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب الآيات ، فلا جرم أن هذه السورة هي التي نزلت إجابة عن تمني الذين آمنوا .
وإنما قال وذكر فيها القتال لأن السورة ليست كلها متمحضة لذكر القتال فإن سور القرآن ذوات أغراض شتى . [ ص: 108 ] والخطاب في " رأيت " للنبيء - صلى الله عليه وسلم - لأنه لاحق لقوله تعالى ومنهم من يستمع إليك .
و الذين في قلوبهم مرض هم المبطنون للكفر فجعل الكفر الخفي كالمرض الذي مقره القلب لا يبدو منه شيء على ظاهر الجسد ، أي رأيت المنافقين على طريق الاستعارة . وقد غلب إطلاق هذه الصلة على المنافقين ، وأن النفاق مرض نفساني معضل لأنه تتفرع منه فروع بيناها في قوله - تعالى - في قلوبهم مرض في سورة البقرة .
وانتصب نظر المغشي عليه من الموت على المفعولية المطلقة لبيان صفة النظر من قوله ينظرون إليك فهو على معنى التشبيه البليغ .
ووجه الشبه ثبات الحدقة وعدم التحريك ، أي ينظرون إليك نظر المتحير بحيث يتجه إلى صوب واحد ولا يشتغل بالمرئيات لأنه في شاغل عن النظر ، وإنما يوجهون أنظارهم إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - إذ كانوا بمجلسه حين نزول السورة ، وكانوا يتظاهرون بالإقبال على تلقي ما ينطق به من الوحي فلما سمعوا ذكر القتال بهتوا ، فالمقصود المشابهة في هذه الصورة . وفي معنى هذه الآية قوله - تعالى - فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت في سورة الأحزاب .
و ( من ) هنا تعليلية ، أي المغشي عليه لأجل الموت ، أي حضور الموت .
وفرع على هذا قوله فأولى لهم طاعة وقول معروف .
وهذا التفريع اعتراض بين جملة ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت وبين جملة فإذا عزم الأمر .
ولفظ ( أولى ) هنا يجوز أن يكون مستعملا في ظاهره استعمال التفضيل على شيء غير مذكور يدل عليه ما قبله ، أي أولى لهم من ذلك الخوف الذي دل عليه نظرهم كالمغشي عليه من الموت ، أن يطيعوا أمر الله ويقولوا قولا معروفا وهو قول سمعنا وأطعنا ، فذلك القول المعروف بين المؤمنين إذا دعوا أو أمروا كما قال - تعالى - [ ص: 109 ] إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا في سورة النور .
وعلى هذا الوجه فتعدية ( أولى ) باللام دون الباء للدلالة على أن ذلك أولى وأنفع ، فكان اجتلاب اللام للدلالة على معنى النفع . فهو مثل قوله تعالى ذلك أزكى لكم وقوله هن أطهر لكم .
وهو يرتبط بقوله بعده فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم .
ويجوز أن يكون فأولى لهم مستعملا في التهديد والوعيد كما في قوله - تعالى - أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى في سورة القيامة ، وهو الذي اقتصر عليه . ومعناه : أن الله أخبر عن توعده إياهم . الزمخشري
ثم قيل على هذا الوجه إن " أولى " مرتبة حروفه على حالها من الولي وهو القرب ، وأن وزنه أفعل . وقال الجرجاني : هو في هذا الاستعمال مشتق من الويل . فأصل أولى : أويل ، أي أشد ويلا ، فوقع فيه قلب ، ووزنه أفلع . وفي الصحاح عن ما يقتضي : أنه يجعل ( أولى له ) مبتدأ محذوف الخبر . والتقدير : أقرب ما يهلكه ، قال الأصمعي ثعلب : ولم يقل أحد في ( أولى له ) أحسن مما قال . الأصمعي
واللام على هذا الوجه إما مزيدة ، أي أولاهم الله ما يكرهون فيكون مثل اللام في قول النابغة :
سقيا ورعيا لذاك العاتب الزاري
وإما متعلقة بـ ( أولى ) على أنه فعل مضي ، وعلى هذا الاستعمال يكون قوله طاعة وقول معروف كلاما مستأنفا وهو مبتدأ خبره محذوف ، أي طاعة وقول معروف خير لهم ، أو خبر لمبتدأ محذوف ، تقديره : الأمر طاعة ، وقول معروف ، أي أمر الله أن يطيعوا .