استئناف وتمهيد لقوله : إن الدين عند الله الإسلام ذلك أن . وإعلان هذا التوحيد ، وتخليصه من شوائب الإشراك ، وفيه تعريض بالمشركين أساس الإسلام هو توحيد الله وبالنصارى واليهود ، وإن تفاوتوا في مراتب الإشراك ، وفيه ضرب من رد العجز على الصدر : لأنه يؤكد ما افتتحت به السورة من قوله : الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق .
والشهادة حقيقتها خبر يصدق به خبر مخبر وقد يكذب به خبر آخر كما تقدم عند قوله تعالى : واستشهدوا شهيدين من رجالكم في سورة البقرة . وإذ قد كان شأنه أن يكون للتصديق والتكذيب في الحقوق ، كان مظنة اهتمام المخبر به والتثبت فيه ، فلذلك أطلق مجازا على الخبر الذي لا ينبغي أن يشك فيه ، قال تعالى : والله يشهد إن المنافقين لكاذبون وذلك على سبيل المجاز المرسل بعلاقة التلازم ، فشهادة الله تحقيقه وحدانيته بالدلائل التي نصبها على ذلك ، وشهادة الملائكة تحقيقهم ذلك فيما بينهم ، وتبليغ بعضهم ذلك إلى الرسل ، وشهادة أولي العلم تحقيقهم ذلك بالحجج والأدلة .
فإطلاق الشهادة على هذه الأخبار مجاز بعلاقة اللزوم ، أو تشبيه الإخبار بالإخبار أو المخبر بالمخبر ، ولك أن تجعل " شهد " بمعنى بين وأقام الأدلة ، شبه إقامة الأدلة على وحدانيته : من إيجاد المخلوقات ونصب الأدلة العقلية ، بشهادة الشاهد بتصديق الدعوى في البيان والكشف على طريق الاستعارة التبعية ، وبين ذلك الملائكة بما نزلوا به من الوحي على الرسل ، وما نطقوا به من محامد ، وبين ذلك أولو العلم بما أقاموا من الحجج على الملاحدة ، ولك أن تجعل شهادة الله بمعنى الدلالة ونصب الأدلة ، وشهادة الملائكة وأولي العلم بمعنى آخر وهو الإقرار أو بمعنيين : إقرار الملائكة ، واحتجاج أولي العلم ، ثم تبنيه على استعمال " شهد " في معان مجازية ، مثل : إن الله وملائكته يصلون ، أو على استعمال " شهد " في مجاز أعم ، وهو الإظهار ، حتى يكون نصب الأدلة والإقرار والاحتجاج من أفراد ذلك العام ، بناء على عموم المجاز .
[ ص: 187 ] وانتصب قائما بالقسط على الحال من الضمير في قوله إلا هو أي شهد بوحدانيته وقيامه بالعدل ، ويجوز أن يكون حالا من اسم الجلالة من قوله : شهد الله فيكون حالا مؤكدة لمضمون " شهد " لأن الشهادة هذه قيام بالقسط ، فالشاهد بها قائم بالقسط ، قال تعالى : كونوا قوامين لله شهداء بالقسط . وزعم ابن هشام في الباب الرابع : أن كونه حالا مؤكدة وهم ، وعلله بما هو وهم ، وقد ذكر الشيخ محمد الرصاع جريان بحث في إعراب مثل هذه الحال في سورة الصف في درس شيخه محمد بن عقاب .
والقيام هنا بمعنى المواظبة كقوله : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وقوله : ليقوم الناس بالقسط وتقول : الأمير قائم بمصالح الأمة ، كما تقول : ساهر عليها ، ومنه وإقام الصلاة وقول أيمن بن خريم الأنصاري :
أقامت غزالة سوق الضراب لأهل العراقين حولا قميطا
وهو في الجميع تمثيل .والقسط : العدل وهو مختصر من القسطاس - بضم القاف - روى عن البخاري مجاهد أنه قال : القسطاس : العدل بالرومية وهذه الكلمة ثابتة في اللغات الرومية وهي من اللاطينية ، ويطلق القسط والقسطاس على الميزان ، لأنه آلة للعدل . قال تعالى : وزنوا بالقسطاس المستقيم وقال : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة . وقد أقام الله القسط في تكوين العوالم على نظمها ، وفي تقدير بقاء الأنواع ، وإيداع أسباب المدافعة في نفوس الموجودات ، وفيما شرع للبشر من الشرائع في الاعتقاد والعمل : لدفع ظلم بعضهم بعضا ، وظلمهم أنفسهم ، فهو القائم بالعدل سبحانه ، وعدل الناس مقتبس من محاكاة عدله .
وقوله : لا إله إلا هو تمجيد وتصديق ، نشأ عن شهادة الموجودات كلها له بذلك فهو تلقين الإقرار له بذلك على نحو قوله تعالى : إن الله وملائكته يصلون على النبيء يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما أي اقتداء بالله وملائكته ، على أنه يفيد مع ذلك تأكيد الجملة السابقة ، ويمهد لوصفه تعالى بالعزيز الحكيم .