القسم للتأكيد وتحقيق الوعيد ، ومناسبة الأمور المقسم بها للمقسم عليه أن هذه الأشياء المقسم بها من شئون بعثة موسى عليه السلام إلى فرعون وكان هلاك فرعون ومن معه من جراء تكذيبهم موسى عليه السلام .
[ ص: 37 ] والطور : الجبل باللغة السريانية قاله مجاهد . وأدخل في العربية وهو من الألفاظ المعربة الواقعة في القرآن .
وغلب علما على طور سيناء الذي ناجى فيه موسى عليه السلام ، وأنزل عليه فيه الألواح المشتملة على أصول شريعة التوراة .
فالقسم به باعتبار شرفه بنزول كلام الله فيه ونزول الألواح على موسى وفي ذكر الطور إشارة إلى تلك الألواح لأنها اشتهرت بذلك الجبل فسميت ( طور ) المعرب بتوراة .
وأما الجبل الذي خوطب فيه موسى من جانب الله فهو جبل حوريب ، واسمه في العربية ( الزبير ) ولعله بجانب الطور كما في قوله تعالى آنس من جانب الطور نارا ، وتقدم بيانه في سورة القصص ، وتقدم عند قوله تعالى ورفعنا فوقكم الطور في سورة البقرة .
والقسم بالطور توطئة للقسم بالتوراة التي أنزل أولها على موسى في جبل الطور .
والمراد ب كتاب مسطور في رق منشور التوراة كلها التي كتبها موسى عليه السلام بعد نزول الألواح ، وضمنها كل ما أوحى الله إليه مما أمر بتبليغه في مدة حياته إلى ساعات قليلة قبل وفاته . وهي الأسفار الأربعة المعروفة عند اليهود : سفر التكوين ، وسفر الخروج ، وسفر العدد ، وسفر التثنية ، وهي التي قال الله تعالى في شأنها ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون في سورة الأعراف . وتنكير كتاب للتعظيم . وإجراء الوصفين عليه لتميزه بأنه كتاب مشرف مراد بقاؤه مأمور بقراءته إذ المسطور هو المكتوب .
والسطر : كتابة طويلة ؛ لأنها تجعل سطورا ، أي : صفوفا من الكتابة قال تعالى وما يسطرون ، أي : يكتبون .
والرق : ( بفتح الراء بعدها قاف مشددة ) الصحيفة تتخذ من جلد مرقق أبيض [ ص: 38 ] ليكتب عليه . وقد جمعها المتلمس في قوله :
فكأنما هي من تقادم عهدها رق أتيح كتابها مسطور
والمنشور : المبسوط غير المطوي قال : يزيد ابن الطثريةصحائف عندي للعتاب طويتها ستنشر يوما ما والعتاب يطول
وكان اليهود يكتبون التوراة في رقروق ملصق بعضها ببعض أو مخيط بعضها ببعض ، فتصير قطعة واحدة ويطوونها طيا أسطوانيا لتحفظ ، فإذا أرادوا قراءتها نشروا مطويها ، ومنه ما في حديث الرجم فنشروا التوراة .
وليس مراد بكتاب مسطور القرآن ؛ لأن القرآن لم يكن يومئذ مكتوبا سطورا ولا هو مكتوبا في رق .
ومناسبة أنها الكتاب الموجود الذي فيه ذكر الجزاء وإبطال الشرك وللإشارة إلى أن القرآن الذي أنكروا أنه من عند الله ليس بدعا فنزلت قبله التوراة وذلك ؛ لأن المقسم عليه وقوع العذاب بهم وإنما هو جزاء على تكذيبهم القرآن ومن جاء به بدليل قوله بعد ذكر العذاب القسم بالتوراة فويل يومئذ للمكذبين الذين هم في خوض يلعبون .
والقسم بالتوراة يقتضي أن التوراة يومئذ لم يكن فيها تبديل لما كتبه موسى : فإما أن يكون تأويل ذلك على قول في تفسير معنى قوله تعالى ابن عباس يحرفون الكلم عن مواضعه أنه تحريف بسوء فهم وليس تبديلا لألفاظ التوراة ، وإما أن يكون تأويله أن التحريف وقع بعد نزول هذه السورة حين ظهرت الدعوة المحمدية وجبهت اليهود دلالة مواضع من التوراة على صفات النبيء محمد - صلى الله عليه وسلم - ، أو يكون تأويله بأن القسم بما فيه من الوحي الصحيح .
" والبيت المعمور " : عن الحسن أنه الكعبة وهذا الأنسب بعطفه على الطور ، [ ص: 39 ] ووصفه ب المعمور ؛ لأنه لا يخلو من طائف به ، وعمران الكعبة هو عمرانها بالطائفين قال تعالى إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر الآية .
ومناسبة القسم سبق القسم بكتاب التوراة فعقب ذلك بالقسم بمواطن نزول القرآن فإن ما نزل به من القرآن أنزل بمكة وما حولها مثل جبل حراء . وكان نزوله شريعة ناسخة لشريعة التوراة ، على أن الوحي كان ينزل حول الكعبة . وفي حديث الإسراء المسجد الحرام إذ جاءني الملكان إلخ ، فيكون توسيط القسم بينا أنا نائم عند بالكعبة في أثناء ما قسم به من شئون شريعة موسى عليه السلام إدماجا .
وفي : أن الطبري عليا سئل : ما ؟ فقال : بيت في السماء يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه أبدا ، يقال له : الضراح . بضم الضاد المعجمة وتخفيف الراء وحاء مهملة ، وأن البيت المعمور مجاهدا والضحاك وابن زيد قالوا مثل ذلك . وعن قتادة أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - قال : هل تدرون ما البيت المعمور ؟ قال : فإنه مسجد في السماء تحته الكعبة إلى آخر الخبر . وثمة أخبار كثيرة متفاوتة في أن في السماء موضعا يقال له : البيت المعمور ، لكن الروايات في كونه المراد من هذه الآية ليست صريحة .
وأما " السقف المرفوع " : ففسروه بالسماء لقوله تعالى وجعلنا السماء سقفا محفوظا وقوله والسماء رفعها فالرفع حقيقي ومناسبة القسم بها أنها مصدر الوحي كله التوراة والقرآن . وتسمية السماء على طريقة التشبيه البليغ .
" والبحر " : يجوز أن يراد به البحر المحيط بالكرة الأرضية . وعندي : أن المراد بحر القلزم ، وهو البحر الأحمر ومناسبة القسم به أنه أهلك به فرعون وقومه حين دخله موسى وبنو إسرائيل فلحق بهم فرعون .
و " المسجور " : قيل المملوء ، مشتقا من السجر وهو الملء والإمداد . فهو صفة كاشفة قصد منها التذكير بحال خلق الله إياه مملوءا ماء دون أن تملأه أودية أو سيول ، أو هي للاحتراز عن إرادة الوادي إذ الوادي ينقص فلا يبقى على ملئه ، وذلك دال على عظم القدرة . والظاهر عندي : أن وصفه بالمسجور للإيماء إلى [ ص: 40 ] الحالة التي كان بها هلاك فرعون بعد أن فرق الله البحر لموسى وبني إسرائيل ثم أسجره ، أي : أفاضه على فرعون وملئه .
وعذاب الله المقسم على وقوعه وهو عذاب الآخرة لقوله يوم تمور السماء مورا إلى قوله " تكذبون " . وأما عذاب المكذبين في الدنيا فسيجيء في قوله تعالى وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك . وتحقيق وقوع عذاب الله يوم القيامة إثبات للبعث بطريقة الكناية القريبة ، وتهديد للمشركين بطريقة الكناية التعريضية .
والواوات التي في هذه الآية واوات قسم ؛ لأن شأن القسم أن يعاد ويكرر ، ولذلك كثيرا ما يعيدون المقسم به نحو قول النابغة : والله والله لنعم الفتى وإنما يعطفون بالفاء إذا أرادوا صفات المقسم به .
ويجوز صرف الواو الأولى للقسم واللاتي بعدها عاطفات على القسم ، والمعطوف على القسم قسم .
والوقوع : أصله النزول من علو واستعمل مجازا للتحقق وشاع ذلك ، فالمعنى : أن عذاب ربك لمتحقق .
وحذف متعلق " لواقع " ، وتقديره : على المكذبين ، أو بالمكذبين ، كما دل عليه قوله بعد فويل يومئذ للمكذبين ، أي : المكذبين بك بقرينة إضافة رب إلى ضمير المخاطب المشعر بأنه معذبهم ؛ لأنه ربك وهم كذبوك فقد كذبوا رسالة الرب . وتضمن قوله إن عذاب ربك لواقع إثبات البعث بعد كون الكلام وعيدا لهم على إنكارهم أن يكونوا معذبين .
وأتبع قوله " لواقع بقوله ما له من دافع ، وهو خبر ثان عن عذاب أو حال منه ، أي : ما للعذاب دافع يدفعه عنهم .
والدفع : إبعاد الشيء عن شيء باليد وأطلق هنا على الوقاية مجازا بعلاقة [ ص: 41 ] الإطلاق ألا يقيهم من عذاب الله أحد بشفاعة أو معارضة .
وزيدت " من " في النفي لتحقيق عموم النفي وشموله ، أي : نفي جنس الدافع .
روى أحمد بن حنبل قال : قدمت جبير بن مطعم المدينة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأكلمه في أسارى بدر فدفعت إليه وهو يصلي بأصحابه صلاة المغرب فسمعته يقرأ ( والطور ) إلى إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع فكأنما صدع قلبي ، وفي رواية : فأسلمت خوفا من نزول العذاب وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب . عن