فالمناسبة أن هذه كالنتيجة لما تقدمها : ; لأن اتخاذهم أولياء - بعد أن سفه الآخرون دينهم وسفهوا أحلامهم في اتباعه - يعد ضعفا في الدين وتصويبا للمعتدين . نهى الله المؤمنين بعد ما بين لهم بغي المخالفين وإعراضهم - أن يتخذوا الكفار أولياء من دون المؤمنين
[ ص: 216 ] وشاع في اصطلاح القرآن إطلاق وصف الكفر على الشرك ، والكافرين والذين كفروا على المشركين ، ولعل تعليق النهي عن الاتخاذ بالكافرين بهذا المعنى هنا لأن المشركين هم الذين كان بينهم وبين المهاجرين صلات ، وأنساب ، ومودات ، ومخالطات مالية ، فكانوا بمظنة الموالاة مع بعضهم . وقد علم كل سامع أن من يشابه المشركين في موقفه تجاه الإسلام يكون تولي المؤمنين إياه كتوليهم المشركين . وقد يكون المراد بالكافرين جميع المخالفين في الدين : مثل المراد من قوله : ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ، فلذلك كله قيل : إن الآية نزلت في وكان من أفاضل حاطب بن أبي بلتعة المهاجرين وخلص المؤمنين ، إلا أنه تأول فكتب كتابا إلى قريش يعلمهم بتجهز النبيء - صلى الله عليه وسلم - لفتح مكة . وقيل : نزلت في لما استفتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بر والدتها وصلتها ، أي قبل أن تجيء أمها إلى أسماء ابنة أبي بكر المدينة راغبة ; فإنه ثبت في الصحيح أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - قال لها : . وقيل : نزلت في فريق من صلي أمك الأنصار كانوا متولين لكعب بن الأشرف ، وأبي رافع ابن أبي الحقيق ، وهما يهوديان بيثرب . وقيل : نزلت في المنافقين وهم ممن يتولى اليهود ; إذ هم كفار جهتهم ، وقيل : نزلت في وكان له حلف مع عبادة بن الصامت اليهود ، فلما كان يوم الأحزاب قال عبادة للنبيء - صلى الله عليه وسلم - : إن معي خمسمائة رجل من اليهود ، وقد رأيت أن يخرجوا معي فأستظهر بهم على العدو . وقيل : نزلت في لما أخذه المشركون فعذبوه عذابا شديدا ، فقال ما أرادوه منه ، فكفوا عنه ، فشكا ذلك إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - فقال له : عمار بن ياسر . كيف تجد قلبك ، قال : مطمئنا بالإيمان ، فقال : فإن عادوا فعد
وقوله : من دون المؤمنين " من " لتأكيد الظرفية .
والمعنى : مباعدين المؤمنين أي في الولاية ، وهو تقييد للنهي بحسب الظاهر ، فيكون المنهي عنه اتخاذ الكافرين أولياء دون المؤمنين ، أي التي تنافي ولايته المؤمنين ، وذلك عندما يكون في تولي الكافرين إضرار بالمؤمنين ، وأصل القيود أن تكون للاحتراز ، ويدل لذلك قوله بعده : ولاية المؤمن الكفار ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء لأنه نفي لوصلة من يفعل ذلك بجانب الله تعالى في جميع الأحوال ، والعرب ( تقول أنت [ ص: 217 ] مني وأنا منك ) في معنى شدة الاتصال حتى كأن أحدهما جزء من الآخر ، أو مبتدأ منه ، ويقولون في الانفصال والقطيعة : لست مني ولست منك ; قال النابغة :
فإني لست منك ولست مني
فقوله : في شيء تصريح بعموم النفي في جميع الأحوال لرفع احتمال تأويل نفي الاتصال بأغلب الأحوال فالمعنى أن فاعل ذلك مقطوع عن الانتماء إلى الله ، وهذا ينادي على أن المنهي عنه هنا ضرب من ضروب الكفر ، وهو الحال التي كان عليها المنافقون ، وكانوا يظنون ترويجها على المؤمنين ، ففضحهم الله تعالى ، ولذلك قيل : إن هذه الآية نزلت في المنافقين ، ومما يدل على ذلك أنها نظير الآية الأخرى : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار .وقيل : لا مفهوم لقوله : من دون المؤمنين لأن آيات كثيرة دلت على النهي عن ولاية الكافرين مطلقا : كقوله يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض وقوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزؤا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء ) وإلى هذا الوجه مال الفخر .
واسم الإشارة في قوله " ذلك " بمعنى ذلك المذكور ، وهو مضمون قوله : أولياء من دون المؤمنين .
والآية نهي عن موالاة الكافرين دون المؤمنين باعتبار القيد أو مطلقا ، والموالاة تكون بالظاهر والباطن وبالظاهر فقط ، وتعتورها أحوال تتبعها أحكام ، وقد استخلصت من ذلك ثمانية أحوال :
الحالة الأولى : ونواء لأهل الإسلام ، وهذه الحالة كفر ، وهي حال المنافقين ، وفي حديث أن يتخذ المسلم جماعة الكفر أو طائفته ، أولياء له في باطن أمره ، ميلا إلى كفرهم ، عتبان بن مالك : مالك بن الدخشن ) فقال آخر : ذلك منافق لا يحب الله ورسوله . فقال النبيء - صلى الله عليه وسلم - : لا تقل ذلك أما سمعته يقول لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ؟ فقال القائل [ ص: 218 ] الله ورسوله أعلم فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين . فجعل هذا الرجل الانحياز إلى المنافقين علامة على النفاق لولا شهادة الرسول لمالك بالإيمان ، أي في قلبه مع إظهاره بشهادة لا إله إلا الله . أن قائلا قال في مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أين
الحالة الثانية : في وقت يكون فيه الكفار متجاهرين بعداوة المسلمين ، والاستهزاء بهم وأذاهم كما كان معظم أحوال الكفار ، عند ظهور الإسلام مع عدم الانقطاع عن مودة المسلمين ، وهذه حالة لا توجب كفر صاحبها ، إلا أن ارتكابها إثم عظيم ، لأن صاحبها يوشك أن يواليهم على مضرة الإسلام ، على أنه من الواجب إظهار الحمية للإسلام ، والغيرة عليه ، كما قال الركون إلى طوائف الكفر ومظاهرتهم لأجل قرابة ومحبة دون الميل إلى دينهم ، العتابي :
تود عدوي ثم تـزعـم أنـنـي صديقك إن الرأي عنك لعازب
وفي مثلها نزل قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزؤا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء ) قال ابن عطية : كانت كفار قريش من المستهزئين ، وفي مثل ذلك ورد قوله تعالى : إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم الآية ، وقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا الآية ، نزلت في قوم كان بينهم وبين اليهود ، جوار وحلف في الجاهلية ، فداموا عليه في الإسلام فكانوا يأنسون بهم ويستنيمون إليهم ، ومنهم أصحاب كعب بن الأشرف ، وأبي رافع بن أبي الحقيق ، وكانا يؤذيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
الحالة الثالثة : كذلك ، بدون أن يكون طوائف الكفار متجاهرين ببغض المسلمين ولا بأذاهم ، كما كان نصارى العرب عند ظهور الإسلام ، قال تعالى : ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى وكذلك كان حال الحبشة فإنهم حموا المؤمنين ، وآووهم ، قال الفخر : وهذه واسطة ، وهي لا توجب الكفر ، إلا أنه منهي عنه ، إذ قد يجر إلى استحسان ما هم عليه وانطلاء مكائدهم على المسلمين .
الحالة الرابعة : مثل الانتصار بالكفار على جماعة من المسلمين ، وهذه الحالة أحكامها متفاوتة ، فقد قال [ ص: 219 ] موالاة طائفة من الكفار لأجل الإضرار بطائفة معينة من المسلمين مالك في : إنه يوكل إلى اجتهاد الإمام ، وهو الصواب ؛ لأن التجسس يختلف المقصد منه إذ قد يفعله المسلم غرورا ، ويفعله طمعا ، وقد يكون على سبيل الفلتة ، وقد يكون له دأبا وعادة ، وقال الجاسوس يتجسس للكفار على المسلمين ابن القاسم : ذلك زندقة لا توبة فيه ، أي لا يستتاب ويقتل كالزنديق ، وهو الذي يظهر الإسلام ويسر الكفر ، إذا اطلع عليه ، وقال ابن وهب : ردة ويستتاب ، وهما قولان ضعيفان من جهة النظر .
وقد استعان المعتمد ابن عباد صاحب إشبيلية بالجلالقة على المرابطين اللمتونيين ، فيقال : إن فقهاء الأندلس أفتوا أمير المسلمين بكفر علي بن يوسف بن تاشفين ، ابن عباد ، فكانت سبب اعتقاله ولم يقتله ولم ينقل أنه استتابه .
الحالة الخامسة : أن ، في حين إظهار أولئك الكفار محبة المسلمين وعرضهم النصرة لهم ، وهذه قد اختلف العلماء في حكمها : ففي المدونة قال يتخذ المؤمنون طائفة من الكفار أولياء لنصر المسلمين على أعدائهم ابن القاسم : لا يستعان بالمشركين في القتال لقوله عليه السلام لكافر تبعه يوم خروجه إلى بدر وروى ارجع فلن أستعين بمشرك أبو الفرج ، : أن وعبد الملك بن حبيب مالكا قال : لا بأس بالاستعانة بهم عند الحاجة ، قال : وحديث لن أستعين بمشرك مختلف في سنده ، وقال جماعة : هو منسوخ ، قال ابن عبد البر عياض : حمله بعض علمائنا على أنه كان في وقت خاص واحتج هؤلاء بغزو مع النبيء - صلى الله عليه وسلم - في صفوان بن أمية حنين ، وفي غزوة الطائف ، وهو يومئذ غير مسلم ، واحتجوا أيضا بأن النبيء - صلى الله عليه وسلم - لما بلغه أن أبا سفيان يجمع الجموع ليوم أحد قال لبني النضير من اليهود إنا وأنتم أهل كتاب وإن لأهل الكتاب على أهل الكتاب النصر ، فإما قاتلتم معنا ، وإلا أعرتمونا السلاح وإلى هذا ذهب أبو حنيفة ، والشافعي ، والليث ، ومن أصحابنا من قال : لا نطلب منهم المعونة ، وإذا استأذنونا لا نأذن لهم : لأن الإذن كالطلب ، ولكن إذا خرجوا معنا من تلقاء أنفسهم لم نمنعهم ، ورام بهذا الوجه التوفيق بين قول والأوزاعي ، ابن القاسم ورواية أبي الفرج ، قاله ابن رشد في البيان من كتاب الجهاد ، ونقل ابن رشد عن عن الطحاوي أبي حنيفة : أنه أجاز الاستعانة بأهل الكتاب دون المشركين ، قال ابن رشد : وهذا لا وجه له ، وعن أصبغ المنع مطلقا بلا تأويل .
[ ص: 220 ] الحالة السادسة : ، لكمال فيه أو نحو ذلك ، من غير أن يكون في ذلك إضرار بالمسلمين ، وذلك غير ممنوع ، فقد قال تعالى في الأبوين : أن يتخذ واحد من المسلمين واحدا من الكافرين بعينه وليا له ، في حسن المعاشرة أو لقرابة وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واستأذنت أسماء النبيء - صلى الله عليه وسلم - في بر والدتها وصلتها ، وهي كافرة ، فقال لها : وفي هذا المعنى نزل قوله تعالى : صلي أمك لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم قيل نزلت في والدة أسماء ، وقيل في طوائف من مشركي مكة : وهم كنانة ، وخزاعة ، ومزينة ، وبنو الحارث بن كعب ، كانوا يودون انتصار المسلمين على أهل مكة . وعن مالك تجوز تعزية الكافر بمن يموت له . وكان النبيء - صلى الله عليه وسلم - يرتاح للأخنس بن شريق الثقفي ، لما يبديه من محبة النبيء ، والتردد عليه ، وقد نفعهم يوم الطائف إذ صرف بني زهرة ، وكانوا ثلاثمائة فارس ، عن قتال المسلمين ، وخنس بهم كما تقدم في قوله تعالى : ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا الآية .
الحالة السابعة : حالة المعاملات الدنيوية : كالتجارات ، والعهود ، والمصالحات ، أحكامها مختلفة باختلاف الأحوال وتفاصيلها في الفقه .
الحالة الثامنة : حالة إظهار الموالاة لهم لاتقاء الضر وهذه هي المشار إليها بقوله تعالى : إلا أن تتقوا منهم تقاة .
والاستثناء في إلا أن تتقوا منقطع ناشئ عن جملة فليس من الله في شيء ؛ لأن الاتقاء ليس مما تضمنه اسم الإشارة ، لكنه أشبه الولاية في المعاملة .
والاتقاء : تجنب المكروه ، وتعديته بحرف " من " إما لأن الاتقاء تستر فعدي بـ " من " كما يعدى فعل " تستر " ، وإما لتضمينه معنى تخافوا .
و تقاة قرأه الجمهور : بضم المثناة الفوقية وفتح القاف بعدها ألف ، وهو اسم مصدر الاتقاء ، وأصله " وقية " فحذفت الواو التي هي فاء الكلمة تبعا لفعل " اتقى " إذ قلبت واوه تاء ليتأتى إدغامها في تاء الافتعال ، ثم أتبعوا ذلك باسم مصدره كالتجاة [ ص: 221 ] والتكلة والتوءدة والتخمة ؛ إذ لا وجه لإبدال الفاء تاء في مثل " تقاة " إلا هذا . وشذ تراث . يدل لهذا المقصد قول الجوهري : وقولهم تجاهك بني على قولهم اتجه لهم رأي . وفي اللسان في تخمة ( لأنهم توهموا التاء أصلية لكثرة الاستعمال ) ويدل لذلك أيضا قرن هذه الأسماء مع أفعالها في نحو هذه الآية ، ونحو قوله : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته وقرأه يعقوب بفتح الفوقية وكسر القاف وفتح التحتية مشددة بوزن فعيلة .
وفائدة التأكيد بالمفعول المطلق هنا : الإشارة إلى تحقق كون الحالة حالة تقية ، وهذه التقية مثل الحال التي كان عليها المستضعفون من المؤمنين الذين لم يجدوا سبيلا للهجرة ، قال تعالى : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ومثل الحالة التي لقيها مسلمو الأندلس حين أكرههم النصارى على الكفر فتظاهروا به إلى أن تمكنت طوائف منهم من الفرار ، وطوائف من استئذان الكفار في الهجرة إلى بلاد الإسلام فأذن لهم العدو ، وكذلك يجب أن تكون التقاة غير دائمة لأنها إذا طالت دخل الكفر في الذراري .
وقوله : ويحذركم الله نفسه تحذير من المخالفة ومن التساهل في دعوى التقية واستمرارها أو طول زمانها .
وانتصاب " نفسه " على نزع الخافض ، وأصله ويحذركم الله من نفسه وهذا النزع هو أصل انتصاب الاسمين في باب التحذير في قولهم إياك الأسد ، وأصله أحذرك من الأسد . وقد جعل التحذير هنا من نفس الله أي ذاته ليكون أعم في الأحوال ، لأنه لو قيل يحذركم الله غضبه لتوهم أن لله رضا لا يضر معه تعمد مخالفة أوامره ، والعرب إذا أرادت تعميم أحوال الذات علقت الحكم بالذات ؛ كقولهم : لولا فلان لهلك فلان ، وقوله تعالى : ولولا رجال مؤمنون إلى قوله : لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ومن هذا القبيل تعليق شرط " لولا " على الوجود المطلق الذي سوغ حذف الخبر بعد " لولا " .
وسيجيء الكلام على صحة إطلاق النفس مضافا إلى الله تعالى في سورة العقود عند قوله تعالى : تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك .
وهذا إعذار وموعظة وتهديد بالعقاب على مخالفة ما نهاهم الله عنه .
[ ص: 222 ] و المصير : هو الرجوع ، وأريد به البعث بعد الموت وقد علم مثبتو البعث أنه لا يكون إلا إلى الله ، فالتقديم في قوله : وإلى الله لمجرد الاهتمام ، وهذا تعريض بالوعيد أكد به صريح التهديد الذي قبله .