صدر هذه الآية يفيد تأكيدا لمضمون جملة إن يثقفوكم وجملة لن تنفعكم أرحامكم ، لأنها بما تضمنته من أن الموجه إليهم التوبيخ خالفوا الأسوة الحسنة تقوي إثبات الخطأ المستوجب للتوبيخ .
ذلك أنه بعد الفراغ من بيان خطأ من يوالي عدو الله بما يجر إلى أصحابه من مضار في الدنيا وفي الآخرة تحذيرا لهم من ذلك ، انتقل إلى تمثيل الحالة الصالحة بمثال من وناهيك بها أسوة . فعل أهل الإيمان الصادق والاستقامة القويمة
وافتتاح الكلام بكلمتي ( قد كانت ) لتأكيد الخبر ، فإن قد مع فعل الكون يراد بهما التعريض بالإنكار على المخاطب ولومه في الإعراض عن العمل بما [ ص: 143 ] تضمنه الخبر كقول عمر يوم طعنه غلام لابن عباس المغيرة : قد كنت أنت وأبوك تحبان أن يكثر هؤلاء الأعلاج بالمدينة ، ومنه قوله تعالى لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك توبيخا على ما كان منهم في الدنيا من إنكار للبعث ، وقوله تعالى وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون وقوله لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر .
ويتعلق ( لكم ) بفعل ( كان ) ، أو هو ظرف مستقر وقع موقع الحال من ( أسوة حسنة )
وإبراهيم عليه السلام مثل في اليقين بالله والغضب له ، عرف ذلك العرب . واليهود والنصارى من الأمم ، وشاع بين الأمم المجاورة من الكنعانيين والأراميين ، ولعله بلغ إلى الهند . وقد قيل : إن اسم ( برهما ) معبود البراهمة من الهنود محرف عن اسم إبراهيم وهو احتمال .
وعطف ( والذين معه ) ليتم إبراهيم عليه السلام والذين معه ، أي أن يكون المسلمون تابعين لرضى رسولهم - صلى الله عليه وسلم - كما كان الذين مع التمثيل لحال المسلمين مع رسولهم - صلى الله عليه وسلم - بحال إبراهيم عليه السلام .
والمراد بـ ( الذين ) معه الذين آمنوا به واتبعوا هديه وهم زوجه سارة وابن أخيه لوط ولم يكن لإبراهيم أبناء ، فضمير إذ قالوا عائد إلى إبراهيم والذين معه فهم ثلاثة .
و ( إذ ) ظرف زمان بمعنى حين ، أي الأسوة فيه وفيهم في ذلك الزمن .
والمراد بالزمن : الأحوال الكائنة فيه ، وهو ما تبينه الجملة المضاف إليها الظرف وهي جملة قالوا لقومهم إنا برآء منكم إلخ .
والأسوة بكسر الهمزة وضمها : القدوة التي يقتدى بها في فعل ما . فوصفت في الآية بـ ( حسنة ) وصفا للمدح لأن كونها حسنة قد علم من سياق ما قبله وما بعده .
وقرأ الجمهور ( إسوة ) بكسر الهمزة ، وقرأه عاصم بضمها . وتقدمت في قوله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة في سورة الأحزاب .
[ ص: 144 ] وحرف ( في ) مستعار لقوة الملابسة إذ جعل تلبس إبراهيم والذين معه بكونهم أسوة حسنة ، بمنزلة تلبس الظرف بالمظروف في شدة التمكن من الوصف . ولذلك كان المعنى : قد كان لكم إبراهيم والذين معه أسوة في حين قولهم لقومهم . فليس قوله ( إسوة حسنة في إبراهيم ) من قبيل التجريد مثل قول أبي خالد العتابي .
وفي الرحمن للضعفاء كاف
.لأن الأسوة هنا هي قول إبراهيم والذين معه لا أنفسهم .
و ( برءاء ) بهمزتين بوزن فعلاء جمع بريء مثل كريم وكرماء .
وبريء فعيل بمعنى فاعل من برئ إذا خلا منه سواء بعد ملابسته أو بدون ملابسة .
والمراد هنا . . . التبرؤ من مخاطلتهم وملابستهم
وعطف عليه ( وما تعبدون ) أي من الأصنام التي تعبدونها من دون الله والمراد برآء من عبادتها .
وجملة ( كفرنا بكم ) وما عطف عليها بيان لمعنى جملة إنا برآء . وضمير ( بكم ) عائد إلى مجموع المخاطبين من قومهم مع ما يعبدونه من دون الله ، ويفسر الكفر بما يناسب المعطوف ، أي كفرنا بجميعكم فكفرهم بالقوم غير كفرهم بما يعبده قومهم .
وعطف عليه وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا وبدا معناه : ظهر ونشأ ، أي أحدثنا معكم العداوة ظاهرة لا مواربة فيها ، أي ليست عداوة في القلب خاصة بل هي . وهو أقصى ما [ ص: 145 ] يستطيعه أمثالهم من درجات تغيير المنكر وهو التغيير باللسان إذ ليسوا بمستطيعين تغيير ما عليه قومهم باليد لقلتهم وضعفهم بين قومهم . عداوة واضحة علانية بالقول والقلب
والعداوة المعاملة بالسوء والاعتداء .
و ( البغضاء ) : نفرة النفس ، والكراهية وقد تطلق إحداهما في موضع الأخرى إذا افترقتا ، فذكرهما معا هنا مقصود به حصول الحالتين في أنفسهم : حالة المعاملة بالعدوان ، وحالة النفرة والكراهية ، أي نسيء معاملتكم ونضمر لكم الكراهية حتى يؤمنوا بالله وحده دون إشراك .
والمراد بقولهم هذا لقومهم أنهم قالوه مقال الصادق في قوله ، فالائتساء بهم في ذلك القول والعمل بما يترجم عليه القول مما في النفوس ، فالمؤتسى به أنهم كاشفوا قومهم بالمنافرة ، وصرحوا لهم بالبغضاء لأجل كفرهم بالله ولم يصانعوهم ويغضوا عن كفرهم لاكتساب مودتهم كما فعل الموبخ بهذه الآية .