وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم .
لا يجوز أن يكون وآخرين عطفا على الأميين لأن آخرين يقتضي المغايرة لما يقابله فيقتضي أنه صادق على غير الأميين ، أي غير العرب والرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن بين غير العرب فتعين أن لا يعطف وآخرين على الأميين لئلا يتعلق بفعل بعث مجرور في ولا على الضمير في قوله منهم كذلك .
فهو إما معطوف على الضمير في عليهم من قوله يتلو عليهم والتقدير : يتلو على آخرين وإذا كان يتلو عليهم فقد علم أنه مرسل إليهم لأن تلاوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا تكون إلا تلاوة تبليغ لما أوحى به إليه .
[ ص: 211 ] وإما أن يجعل ( وآخرين ) مفعولا معه . والواو للمعية ويتنازعه الأفعال الثلاثة وهي ( يتلو ، ويزكي ، ويعلم ) . والتقدير : يتلو على الأميين آياتنا ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة مع آخرين .
وجملة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين معترضة بين المعطوف والمعطوف عليها أو بين الضمائر والمفعول معه . و آخرين : جمع آخر وهو المغاير في وصف مما دل عليه السياق . وإذ قد جعل آخرين هنا مقابلا للأميين كان مرادا به آخرون غير الأميين ، أي من غير العرب المعنيين بالأميين .
فلو حملنا المغايرة على المغايرة بالزمان أو المكان ، أي مغايرين للذين بعث فيهم الرسول ، وجعلنا قوله ( منهم ) بمعنى أنهم من الأميين ، وقلنا أريد : وآخرين من العرب غير الذين كان النبيء - صلى الله عليه وسلم - فيهم ، أي عربا آخرين غير أهل مكة ، وهم بقية قبائل العرب أكده ما روى البخاري ومسلم يزيد آخرهم على الأولين عن والترمذي قال : أبي هريرة وآخرين منهم لما يلحقوا بهم قال له رجل : من هم يا رسول الله ؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثا ، وفينا ووضع رسول الله يده على سلمان الفارسي سلمان وقال : لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء وهذا وارد مورد التفسير لقوله تعالى ( وآخرين ) . كنا جلوسا عند النبيء - صلى الله عليه وسلم - فأنزلت عليه سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ
والذي يلوح أنه تفسير بالجزئي على وجه المثال ليفيد أن ( آخرين ) صادق على أمم كثيرة منها أمة فارس ، وأما شموله لقبائل العرب فهو بالأولى لأنهم مما شملهم لفظ الأميين .
ثم بنا أن ننظر إلى تأويل قوله تعالى ( منهم ) . قلنا أن نجعل من تبعيضية كما هو المتبادر من معانيها فنجعل الضمير المجرور ب من عائدا إلى ما عاد إليه ضمير ( كانوا ) من قوله وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ، فالمعنى : وآخرين من الضالين يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ولنا أن نجعل من اتصالية كالتي في قوله تعالى لست منهم في شيء والمعنى : وآخرين يتصلون بهم ويصيرون في جملتهم ، ويكون قوله ( منهم ) [ ص: 212 ] موضع الحال ، وهذا الوجه يناسب قوله تعالى لما يلحقوا بهم لأن اللحوق هو معنى الاتصال .
وموضع جملة لما يلحقوا بهم موضع الحال ، وينشأ عن هذا المعنى إيماء إلى أن الأمم التي تدخل في الإسلام بعد المسلمين الأولين يصيرون مثلهم ، وينشأ منه أيضا رمز إلى أنهم يتعربون لفهم الدين والنطق بالقرآن فكم من معان جليلة حوتها هذه الآية سكت عنها أهل التفسير .
وهذه بشارة غيبية بأن دعوة النبيء - صلى الله عليه وسلم - ستبلغ أمما ليسوا من العرب وهم فارس . والأرمن . والأكراد . والبربر . والسودان . والروم . والترك . والتتار . والمغول . والصين . والهنود ، وغيرهم وهذا من معجزات القرآن من صنف الإخبار بالمغيبات .
وفي الآية دلالة على عموم رسالة النبيء - صلى الله عليه وسلم - لجميع الأمم .
والنفي ب ( لما ) يقتضي أن المنفي بها مستمر الانتفاء إلى زمن التكلم فيشعر بأنه مترقب الثبوت كقوله تعالى ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ، أي وسيدخل كما في الكشاف ، والمعنى : أن آخرين هم في وقت نزول هذه الآية لم يدخلوا في الإسلام ولم يلتحقوا بمن أسلم من العرب وسيدخلون في أزمان أخرى .
واعلم أن قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - الإيماء إلى مثال مما يشمله قوله تعالى لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء وآخرين منهم لأنه لم يصرح في جواب سؤال السائل بلفظ يقتضي انحصار المراد ب ( آخرين ) في قوم سلمان . وعن عكرمة : هم التابعون . وعن مجاهد : هم الناس كلهم الذين بعث إليهم محمد - صلى الله عليه وسلم - . وقال : هم ابن عمر أهل اليمن .
وقوله وهو العزيز الحكيم تذييل للتعجيب من هذا التقدير الإلهي لانتشار هذا الدين في جميع الأمم . فإن العزيز لا يغلب قدرته شيء . والحكيم تأتي أفعاله عن قدر محكم .