الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة
الحاقة صيغة فاعل من : حق الشيء إذا ثبت وقوعه ، والهاء فيها لا تخلو عن [ ص: 112 ] أن تكون هاء تأنيث فتكون الحاقة وصفا لموصوف مقدر مؤنث اللفظ ، أو أن تكون هاء مصدر على وزن فاعلة مثل الكاذبة للكذب ، والخاتمة للختم ، والباقية للبقاء ، والطاغية للطغيان ، والنافلة ، والخاطئة ، وأصلها تاء المرة ، ولكنها لما أريد المصدر قطع النظر عن المرة مثل كثير من المصادر التي على وزن فعلة غير ما أريد به المرة مثل قولهم ضربة لازب . فالحاقة إذن بمعنى الحق كما يقال " من حاق كذا " ، أي من حقه .
وعلى الوجهين فيجوز أن يكون المراد بالحاقة المعنى الوصفي ، أي حادثة تحق أو حق يحق .
ويجوز أن يكون المراد بها لقبا ليوم القيامة ، وروي ذلك عن وأصحابه وهو الذي درج عليه المفسرون فلقب بذلك يوم القيامة لأنه يوم محقق وقوعه ، كما قال تعالى ابن عباس وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه ، أو لأنه تحق فيه الحقوق ولا يضاع الجزاء عليها ، قال تعالى ولا تظلمون فتيلا وقال فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وإيثار هذه المادة وهذه الصيغة يسمح باندراج معان صالحة بهذا المقام فيكون ذلك من الإيجاز البديع لتذهب نفوس السامعين كل مذهب ممكن من مذاهب الهول والتخويف بما يحق حلوله بهم .
فيجوز أيضا أن تكون الحاقة وصفا لموصوف محذوف تقديره : الساعة الحاقة ، أو الواقعة الحاقة ، فيكون تهديدا بيوم أو وقعة يكون فيها عقاب شديد للمعرض بهم مثل يوم بدر أو وقعته وأن ذلك حق لا ريب في وقوعه ، أو وصفا للكلمة ، أي كلمة الله التي حقت على المشركين من أهل مكة ، قال تعالى ( وكذلك حقت كلمات ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار ) ، أو التي حقت للنبيء - صلى الله عليه وسلم - أن ينصره الله ، قال تعالى ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون فتول عنهم حتى حين .
ويجوز أن تكون مصدرا بمعنى الحق ، فيصح أن يكون وصفا ليوم القيامة بأنه حق كقوله تعالى واقترب الوعد الحق أو وصفا للقرآن كقوله إن هذا لهو القصص الحق ، أو أريد به الحق كله مما جاء به القرآن من الحق قال تعالى [ ص: 113 ] هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق وقال إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق .
وافتتاح السورة بهذا اللفظ ترويع للمشركين .
و ( الحاقة ) مبتدأ و ( ما ) مبتدأ ثان . و ( الحاقة ) المذكورة ثانيا خبر المبتدأ الثاني والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول .
و ( ما ) اسم استفهام مستعمل في التهويل والتعظيم كأنه قيل : أتدري ما الحاقة ؟ أي ما هي الحاقة ؟ ، أي شيء عظيم الحاقة . وإعادة اسم المبتدأ في الجملة الواقعة خبرا عنه تقوم مقام ضميره في ربط الجملة المخبر بها . وهو من الإظهار في مقام الإضمار لقصد ما في الاسم من التهويل . ونظيره في ذلك قوله تعالى وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين .
وجملة وما أدراك ما الحاقة يجوز أن تكون معترضة بين جملة ما الحاقة وجملة كذبت ثمود وعاد بالقارعة ، والواو اعتراضية .
ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة ما الحاقة .
و ( ما ) الثانية استفهامية ، والاستفهام بها مكنى به عن تعذر إحاطة علم الناس بكنه الحاقة ؛ لأن الشيء الخارج عن الحد المألوف لا يتصور بسهولة فمن شأنه أن يتساءل عن فهمه .
والخطاب في قوله وما أدراك لغير معين . والمعنى : الحاقة أمر عظيم لا تدركون كنهه .
وتركيب ( ما أدراك كذا ) مما جرى مجرى المثل فلا يغير عن هذا اللفظ وهو تركيب مركب من ( ما ) الاستفهامية وفعل ( أدرى ) الذي يتعدى بهمزة التعدية إلى ثلاثة مفاعيل من باب أعلم وأرى ، فصار فاعل فعله المجرد وهو ( درى ) مفعولا أولا بسبب التعدية . وقد علق فعل ( أدراك ) عن نصب مفعولين ب ( ما ) الاستفهامية الثانية في قوله ما الحاقة . وأصل الكلام قبل التركيب بالاستفهام أن تقول : أدركت الحاقة أمرا عظيما ، ثم صار أدركني فلان الحاقة أمرا عظيما .
و ( ما ) الأولى استفهامية مستعملة في التهويل والتعظيم على طريقة المجاز المرسل [ ص: 114 ] في الحرف ؛ لأن الأمر العظيم من شأنه أن يستفهم عنه فصار التعظيم والاستفهام متلازمين . ولك أن تجعل الاستفهام إنكاريا ، أي لا يدري أحد كنه هذا الأمر .
والمقصود من ذلك على كلا الاعتبارين هو التهويل .
هذا السؤال كما تقول : علمت هل يسافر فلان ؟
و ( ما ) الثالثة علقت فعل ( أدراك ) عن العمل في مفعولين .
وكاف الخطاب فيه خطاب لغير معين فلذلك لا يقترن بضمير تثنية أو جمع أو تأنيث إذا خوطب به غير المفرد المذكر .
واستعمال ( ما أدراك ) غير استعمال ( ما يدريك ) في قوله تعالى وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا وقوله وما يدريك لعل الساعة قريب في سورة الشورى .
روي عن : كل شيء من القرآن من قوله ( ما أدراك ) فقد أدراه وكل شيء من قوله ( وما يدريك ) فقد طوي عنه . وقد روي هذا أيضا عن ابن عباس وعن سفيان بن عيينة فإن صح هذا المروي فإن مرادهم أن مفعول ( ما أدراك ) محقق الوقوع ؛ لأن الاستفهام فيه للتهويل وأن مفعول ( ما يدريك ) غير محقق الوقوع ؛ لأن الاستفهام فيه للإنكار وهو في معنى نفي الدراية . يحيى بن سلام
وقال الراغب : كل موضع ذكر في القرآن ( وما أدراك ) فقد عقب ببيانه نحو وما أدراك ما هيه نار حامية ، وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر ، ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا ، وما أدراك ما الحاقة كذبت ثمود وعاد بالقارعة . وكأنه يريد تفسير ما نقل عن وغيره . ابن عباس
ولم أر من اللغويين من وفى هذا التركيب حقه من البيان وبعضهم لم يذكره أصلا .