( ألم يك نطفة من مني تمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى
استئناف هو علة وبيان للإنكار المسوق للاستدلال بقوله ( أيحسب الإنسان أن يترك ) الذي جعل تكريرا وتأييد لمضمون قوله ( أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ) الآية ، أي أن خلق الإنسان من مادة ضعيفة وتدرجه في أطوار كيانه دليل على إثبات القدرة على إنشائه إنشاء ثانيا بعد تفرق أجزائه واضمحلالها ، فيتصل معنى الكلام هكذا : أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ويعد ذلك متعذرا . ألم نبدأ خلقه إذ كوناه نطفة ثم تطور خلقه أطوارا فماذا يعجزنا أن نعيد خلقه ثانيا كذلك ، قال تعالى ( كما بدأنا أول خلق نعيده ) .
وهذه الجمل تمهيد لقوله ( أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ) .
وهذا البيان خاص بأحد معنيي الترك في الآية وهو تركه دون إحياء وأكتفي [ ص: 367 ] ببيان هذا عن بيان المعنى الآخر الذي قيده قوله ( سدى ) ، أي تركه بدون جزاء على أعماله لأن فائدة الإحياء أن يجازى على عمله . والمعنى : أيحسب أن يترك فانيا ولا تجدد حياته .
ووقع وصف ( سدى ) في خلال ذلك موقع الاستدلال على لزوم بعث الناس من جانب الحكمة ، وانتقل بعده إلى بيان إمكان البعث من جانب المادة ، فكان وقوعه إدماجا .
فالإنسان خلق من ماء وطور أطوارا حتى صار جسدا حيا تام الخلقة والإحساس فكان بعضه من صنف الذكور وبعضه من صنف الإناث ، فالذي قدر على هذا الخلق البديع لا يعجزه إعادة خلق كل واحد كما خلقه أول مرة بحكمة دقيقة وطريقة أخرى لا يعلمها إلا هو .
والنطفة : القليل من الماء سمي بها ماء التناسل ، وتقدم في سورة فاطر .
واختلف في تفسير معنى ( تمنى ) فقال كثير من المفسرين معناه : تراق . ولم يذكر في كتب اللغة أن فعل : منى أو أمنى يطلق بمعنى أراق سوى أن بعض أهل اللغة قال في تسمية ( منى ) التي بمكة إنها سميت كذلك لأنها تراق بها دماء الهدي ، ولم يبينوا هل هو فعل مجرد أو بهمزة التعدية .
وأحسب هذا من التلفيقات المعروفة من أهل اللغة من طلبهم إيجاد أصل لاشتقاق الأعلام وهو تكلف صراح ، فاسم ( منى ) علم مرتجل ، وقال ثعلب : سميت بذلك من قولهم : منى الله عليه الموت ، أي قدره لأنها تنحر فيها الهدايا ومثله عن وعن ابن شميل . وفسر بعضهم تمنى بمعنى تخلق من قولهم منى الله الخلق ، أي خلقهم . والأظهر قول بعض المفسرين أنه مضارع أمنى الرجل فيكون كقوله ( ابن عيينة أفرأيتم ما تمنون ) في سورة الواقعة .
والعلقة : القطعة الصغيرة من الدم المتعقد .
وعطف فعل ( كان علقة ) بحرف ثم للدلالة على التراخي الرتبي فإن كونه علقة أعجب من كونه نطفة لأنه صار علقة بعد أن كان ماء فاختلط بما تفرزه رحم الأنثى من البويضات فكان من مجموعهما علقة كما تقدم في فائدة التقييد بقوله في سورة النجم ( من نطفة إذا تمنى ) .
[ ص: 368 ] ولما كان تكوينه علقة هو مبدأ خلق الجسم عطف عليه قوله ( فخلق ) بالفاء ، لأن العلقة يعقبها أن تصير مضغة إلى أن يتم خلق الجسد وتنفخ فيه الروح .
وضمير ( خلق ) عائد إلى ( ربك ) . وكذلك عطف ( فسوى ) بالفاء .
والتسوية : جعل الشيء سواء ، أي معدلا مقوما قال تعالى ( فسواهن سبع سماوات ) وقال ( الذي خلق فسوى ) ، أي فجعله جسدا من عظم ولحم .
ومفعول ( خلق ) ومفعول ( سوى ) محذوفان لدلالة الكلام عليهما ، أي فخلقه فسواه .
وعقب ذلك بخلقه ذكرا أو أنثى زوجين ومنهما يكون التناسل أيضا .
وقرأ الجمهور ( تمنى ) بالفوقية على أنه وصف لـ ( نطفة ) . وقرأه حفص ويعقوب بالتحتية على أنه وصف ( مني ) .
وجملة ( أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ) واقعة موقع النتيجة من الدليل لأن خلق جسم الإنسان من عدم وهو أمر ثابت بضرورة المشاهدة ، أحق بالاستبعاد من إعادة الحياة إلى الجسم بعد الموت سواء بقي الجسم غير ناقص أو نقص بعضه أو معظمه فهو إلى بث الحياة فيه وإعادة ما فني من أجزائه أقرب من إيجاد الجسم من عدم .
والاستفهام إنكار للمنفي إنكار تقرير بالإثبات وهذا غالب استعمال الاستفهام التقريري أن تقع على نفي ما يراد إثباته ليكون ذلك كالتوسعة على المقرر إن أراد إنكارا كناية عن ثقة المتكلم بأن المخاطب لا يستطيع الإنكار .
وقد جاء في هذا الختام بمحسن رد العجز على الصدر ، فإن السورة افتتحت بإنكار أن يحسب المشركون استحالة البعث ، وتسلسل الكلام في ذلك بأفانين من الإثبات والتهديد والتشريط والاستدلال ، إلى أن أفضى إلى استنتاج أن الله قادر على أن يحيي الموتى وهو المطلوب الذي قدم في قوله ( أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه ) .
وتعميم الموتى في قوله ( أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ) بعد جريان أسلوب الكلام على خصوص الإنسان الكافر أو خصوص كافر معين ، يجعل جملة ( أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ) تذييلا .