بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا
والتطفيف : النقص عن حق المقدار في الموزون أو المكيل ، وهو مصدر طفف إذ بلغ الطفافة . والطفاف بضم الطاء وتخفيف الفاء ما قصر عن ملء الإناء من شراب أو طعام ، ويقال : الطف بفتح الطاء دون هاء تأنيث ، وتطلق هذه الثلاثة على ما تجاوز حرف المكيال مما يملأ به ، وإنما يكون شيئا قليلا زائدا على ما ملأ الإناء ، فمن ثم سميت طفافة ، أي : قليل زيادة .
ولا نعرف له فعلا مجردا إذ لم ينقل إلا بصيغة التفعيل ، وفعله : طفف ، كأنهم راعوا في صيغة التفعيل معنى التكلف والمحاولة ; لأن المطفف يحاول أن ينقص الكيل دون أن يشعر به المكتال ، ويقابله الوفاء .
و ( ويل ) كلمة دعاء بسوء الحال ، وهي في القرآن وعيد بالعقاب وتقريع ، والويل : اسم وليس بمصدر لعدم وجود فعل له ، وتقدم عند قوله تعالى : فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم في سورة البقرة .
وهو من عمل المتصدين للتجر يغتنمون حاجة الناس إلى الابتياع منهم وإلى البيع لهم ; لأن التجار هم أصحاب رءوس الأموال وبيدهم المكاييل والموازين ، وكان [ ص: 190 ] أهل مكة تجارا ، وكان في يثرب تجار أيضا وفيهم اليهود مثل : أبي رافع وكعب بن الأشرف تاجري أهل الحجاز ، وكانت تجارتهم في التمر والحبوب ، وكان أهل مكة يتعاملون بالوزن ; لأنهم يتجرون في أصناف السلع ويزنون الذهب والفضة وأهل يثرب يتعاملون بالكيل .
والآية تؤذن بأن التطفيف كان متفشيا في المدينة في أول مدة الهجرة ، واختلاط المسلمين بالمنافقين يسبب ذلك .
واجتمعت كلمة المفسرين على أن أهل يثرب كانوا من أخبث الناس كيلا فقال جماعة من المفسرين : إن هذه الآية نزلت فيهم فأحسنوا الكيل بعد ذلك . رواه عن ابن ماجه . ابن عباس
وكان ممن اشتهر بالتطفيف في المدينة رجل يكنى أبا جهينة واسمه عمرو ، كان له صاعان يأخذ بأحدهما ويعطي بالآخر .
فجملة الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون إدماج ، مسوقة لكشف عادة ذميمة فيهم هي الحرص على توفير مقدار ما يبتاعونه بدون حق لهم فيه ، والمقصود الجملة المعطوفة عليها وهي جملة وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون فهم مذمومون بمجموع ضمن الجملتين .
والاكتيال : افتعال من الكيل ، وهو يستعمل في تسلم ما يكال على طريقة استعمال أفعال : ابتاع ، وارتهن ، واشترى ، في معنى أخذ المبيع ، وأخذ الشيء المرهون وأخذ السلعة المشتراة ، فهو مطاوع كال ، كما أن ابتاع مطاوع باع ، وارتهن مطاوع رهن ، واشترى مطاوع شرى ، قال تعالى : فأرسل معنا أخانا نكتل أي : نأخذ طعاما مكيلا ، ثم تنوسي منه معنى المطاوعة .
وحق فعل اكتال أن يتعدى إلى مفعول واحد هو المكيل ، فيقال : اكتال فلان طعاما مثل ابتاع ، ويعدى إلى ما زاد على المفعول بحرف الجر مثل من الابتدائية فيقال : اكتال طعاما من فلان ، وإنما عدي في الآية بحرف على لتضمين اكتالوا معنى التحامل ، أي : إلقاء المشقة على الغير وظلمه ، ذلك أن شأن التاجر وخلقه أن يتطلب توفير الربح وأنه مظنة السعة ووجود المال بيده فهو [ ص: 191 ] يستعمل حاجة من يأتيه بالسلعة ، وعن الفراء من وعلى يتعاقبان في هذا الموضع ; لأنه حق عليه فإذا قال اكتلت عليك ، فكأنه قال : أخذت ما عليك ، وإذا قال : اكتلت منك فكقوله : استوفيت منك .
فمعنى اكتالوا على الناس اشتروا من الناس ما يباع بالكيل ، فحذف المفعول لأنه معلوم في فعل اكتالوا أي : اكتالوا مكيلا ، ومعنى كالوهم باعوا للناس مكيلا فحذف المفعول لأنه معلوم .
فالواوان من كالوهم أو وزنوهم عائدان إلى اسم الموصول والضميران المنفصلان عائدان إلى الناس .
وتعدية كالوا ، ووزنوا إلى الضميرين على حذف لام الجر . وأصله : كالوا لهم ووزنوا لهم ، كما حذفت اللام في قوله تعالى في سورة البقرة وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم أي : تسترضعوا لأولادكم ، وقولهم في المثل : " الحريص يصيدك لا الجواد " أي : الحريص يصيد لك . وهو حذف كثير مثل قولهم : نصحتك وشكرتك ، أصلهما نصحت لك وشكرت لك ; لأن فعل كال وفعل وزن لا يتعديان بأنفسهما إلا إلى الشيء المكيل أو الموزون يقال : كال له طعاما ووزن له فضة ، ولكثرة دورانه على اللسان خففوه فقالوا : كاله ووزنه طعاما على الحذف والإيصال .
قال الفراء : هو من كلام أهل الحجاز ومن جاورهم من قيس يقولون : يكيلنا ، يعني : ويقولون أيضا : كال له ووزن له . وهو يريد أن غير أهل الحجاز وقيس لا يقولون : كال له ووزن له ، ولا يقولون إلا : كاله ووزنه ، فيكون فعل كال عندهم مثل باع .
والاقتصار على قوله : إذا اكتالوا دون أن يقول : وإذا اتزنوا كما قال : وإذا كالوهم أو وزنوهم اكتفاء بذكر الوزن في الثاني تجنبا لفعل اتزنوا لقلة دورانه في الكلام فكان فيه شيء من الثقل . ولنكتة أخرى وهي أن المطففين هم أهل التجر وهم يأخذون السلع من الجالبين في الغالب بالكيل ; لأن الجالبين يجلبون التمر والحنطة ونحوهما مما يكال ويدفعون لهم الأثمان عينا بما يوزن من ذهب أو فضة مسكوكين أو غير مسكوكين ، فلذلك اقتصر في ابتياعهم من الجالبين على [ ص: 192 ] الاكتيال نظرا إلى الغالب ، وذكر في بيعهم للمبتاعين الكيل والوزن لأنهم يبيعون الأشياء كيلا ويقبضون الأثمان وزنا ، وفي هذا إشارة إلى أن التطفيف من عمل تجارهم .
و ( يستوفون ) جواب إذا والاستيفاء أخذ الشيء وافيا ، فالسين والتاء فيه للمبالغة في الفعل مثل : استجاب .
ومعنى يخسرون يوقعون الذين كالوا لهم أو وزنوا لهم في الخسارة ، والخسارة النقص من المال في التبايع .
وهذه الآية تحذير للمسلمين من إذ وجدوه فاشيا في التساهل في التطفيف المدينة في أول هجرتهم وذم للمشركين من أهل المدينة وأهل مكة .
وحسبهم أن التطفيف يجمع ظلما واختلاسا ولؤما ، والعرب كانوا يتعيرون بكل واحد من هذه الخلال متفرقة ويتبرئون منها ، ثم يأتونها مجتمعة ، وناهيك بذلك أفنا .