يجوز أن يكون ( فلا اقتحم العقبة ) تفريع إدماج بمناسبة قوله : ( وهديناه النجدين ) أي : هديناه الطريقين فلم يسلك النجد الموصل إلى الخير .
ويجوز أن يكون تفريعا على جملة ( يقول أهلكت مالا لبدا ) وما بينهما اعتراضا ، وتكون ( لا اقتحم العقبة ) استفهاما حذف منه أداته . وهو استفهام إنكار ، والمعنى : أنه يدعي إهلاك مال كثير في الفساد من ميسر وخمر ونحو ذلك ، [ ص: 356 ] أفلا أهلكه في القرب والفضائل بفك الرقاب وإطعام المساكين في زمن المجاعة ، فإن الإنفاق في ذلك لا يخفى على الناس خلافا لما يدعيه من إنفاق .
وعلى هذا الوجه لا يعرض الإشكال بعدم تكرر ( لا ) فإن شأن ( لا ) النافية إذا دخلت على فعل المضي ولم تكرر أن تكون للدعاء إلا إذا تكررت معها مثلها معطوفة عليها ، نحو قوله : ( فلا صدق ولا صلى ) أو كانت ( لا ) معطوفة على نفي نحو : ما خرجت ولا ركبت . فهو في حكم تكرير ( لا ) . وقد جاءت هنا نافية في غير دعاء ، ولم تكرر استغناء عن تكريرها بكون ( ما ) بعدها ، وهو ( اقتحم العقبة ) يتضمن شيئين جاء بيانهما في قوله : ( فك رقبة أو إطعام ) فكأنه قال : فلا فك رقبة ولا أطعم يتيما أو مسكينا . ويجوز أن يكون عدم تكرير ( لا ) هنا استغناء بقوله : ( ثم كان من الذين آمنوا ) فكأنه قيل : فلا اقتحم العقبة ولا آمن . ويظهر أن كل ما يصرف عن التباس الكلام كاف عن تكرير ( لا ) كالاستثناء في قول الحريري في المقامة الثلاثين : " لا عقد هذا العقد المبجل في هذا اليوم الأغر المحجل إلا الذي جال وجاب ) إلخ . وأطلق ( العقبة ) على العمل الموصل للخير ; لأن عقبة النجد أعلى موضع فيه . ولكل نجد عقبة ينتهي بها . وفي العقبات تظهر مقدرة السابرة .
والاقتحام : الدخول العسير في مكان أو جماعة كثيرين ، يقال : اقتحم الصف ، وهو افتعال للدلالة على التكلف مثل اكتسب ، فشبه تكلف الأعمال الصالحة باقتحام العقبة في شدته على النفس ومشقته ، قال تعالى : ( وما يلقاها إلا الذين صبروا ) .
والاقتحام ترشيح لاستعارة العقبة لطريق الخير ، وهو مع ذلك استعارة ; لأن تزاحم الناس إنما يكون في طلب المنافع كما قال :
والمورد العذب كثير الزحام
وأفاد نفي الاقتحام أنه عدل عن الاهتداء إيثارا للعاجل على الآجل ، ولو عزم وصبر لاقتحم العقبة . وقد تتابعت الاستعارات الثلاث : النجدين ، والعقبة ، والاقتحام ، وبني بعضها على بعض ، وذلك من أحسن الاستعارة ، وهي مبنية على تشبيه المعقول بالمحسوس .
[ ص: 357 ] والكلام مسوق مساق التوبيخ على عدم اهتداء هؤلاء للأعمال الصالحة مع قيام أسباب الاهتداء من الإدراك والنطق .
وقوله : ( وما أدراك ما العقبة ) حال من ( العقبة ) في قوله : ( فلا اقتحم العقبة ) للتنويه بها وأنها لأهميتها يسأل عنها المخاطب هل أعلمه معلم ما هي ، أي : لم يقتحم العقبة في حال جدارتها بأن تقتحم ، وهذا التنويه يفيد التشويق إلى معرفة المراد من العقبة .
و ( ما ) الأولى استفهام . و ( ما ) الثانية مثلها . والتقدير : أي شيء أعلمك ما هي العقبة ، أي : أعلمك جواب هذا الاستفهام ، كناية عن كونه أمرا عزيزا يحتاج إلى من يعلمك به .
والخطاب في ( ما أدراك ) لغير معين ; لأن هذا بمنزلة المثل .
وفعل ( أدراك ) معلق عن العمل في المفعولين لوقوع الاستفهام بعده ، وقد تقدم نظيره في سورة الحاقة .
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر ويعقوب وخلف ، ( فك رقبة ) برفع ( فك ) وإضافته إلى ( رقبة ) ورفع ( إطعام ) عطفا على ( فك ) .
وجملة ( فك رقبة ) بيان للعقبة ، والتقدير : هي فك رقبة ، فحذف المسند إليه حذفا لمتابعة الاستعمال . وتبيين العقبة بأنها : ( فك رقبة أو إطعام ) مبني على استعارة العقبة للأعمال الصالحة الشاقة على النفس . وقد علمت أن ذلك من تشبيه المعقول بالمحسوس ، فلا وجه لتقدير من قدر مضافا فقال : أي : وما أدراك ما اقتحام العقبة .
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ( فك ) بفتح الكاف على صيغة فعل المضي ، وبنصب ( رقبة ) على المفعول لـ ( فك ) أو ( أطعم ) بدون ألف بعد عين ( إطعام ) على أنه فعل مضي عطفا على ( فك ) ، فتكون جملة ( والكسائي فك رقبة ) بيانا لجملة ( فلا اقتحم العقبة ) وما بينهما اعتراضا ، أو تكون بدلا من جملة ( اقتحم العقبة ) أي : فلا اقتحم العقبة ولا فك رقبة أو أطعم . وما بينهما اعتراض كما تقرر آنفا .
[ ص: 358 ] والفك : أخذ الشيء من يد من احتاز به .
والرقبة مراد بها الإنسان ، من إطلاق اسم الجزء على كله ، مثل إطلاق رأس وعين ووجه ، وإيثار لفظ الرقبة هنا ; لأن المراد ذات الأسير أو العبد ، وأول ما يخطر بذهن الناظر لواحد من هؤلاء هو رقبته ; لأنه في الغالب يوثق من رقبته .
وأطلق الفك على تخليص المأخوذ في أسر أو ملك ، لمشابهة تخليص الأمر العسير بالنزع من يد القابض الممتنع .
وهذه الآية أصل من أصول التشريع الإسلامي وهو تشوف الشارع إلى الحرية ، وقد بسطنا القول في ذلك في كتاب أصول النظام الاجتماعي في الإسلام .
والمسغبة : الجوع ، وهي مصدر على وزن المفعلة ، مثل : المحمدة والمرحمة ، من سغب كفرح سغبا إذا جاع .
والمراد بـ ( يوم ذي مسغبة ) : زمان ، لا النهار المعروف .
وإضافة ( ذي ) إلى ( مسغبة ) تفيد اختصاص ذلك اليوم بالمسغبة ، أي : يوم مجاعة . وذلك زمن البرد وزمن القحط .
ووجه تخصيص اليوم ذي المسغبة بالإطعام فيه ، أن الناس في زمن المجاعة يشتد شحهم بالمال خشية امتداد زمن المجاعة والاحتياج إلى الأقوات . فالإطعام في ذلك الزمن أفضل ، وهو العقبة ودون العقبة مصاعد متفاوتة .
وانتصب ( يتيما ) على المفعول به لـ ( إطعام ) الذي هو مصدر عامل عمل فعله ، وإعمال المصدر غير المضاف ولا المعرف باللام أقيس ، وإن كان إعمال المضاف أكثر ، ومنع الكوفيون إعمال المصدر غير المضاف . وما ورد بعده مرفوع أو منصوب حملوه على إضمار فعل من لفظ المصدر ، فيقدر في مثل هذه الآية عندهم ( يطعم يتيما ) .
واليتيم : الشخص الذي ليس له أب وهو دون البلوغ ، ووجه تخصيصه بالإطعام أنه مظنة قلة الشبع لصغر سنه وضعف عمله وفقد من يعوله ، ولحيائه من التعرض لطلب ما يحتاجه ; فلذلك رغب في إطعامه وإن لم يصل حد المسكنة [ ص: 359 ] والفقر ووصف بكونه ( ذا مقربة ) أي : مقربة من المطعم ; لأن هذا الوصف يؤكد إطعامه ; لأن في كونه يتيما إغاثة له بالإطعام ، وفي كونه ذا مقربة صلة للرحم .
والمقربة : قرابة النسب وهو مصدر بوزن مفعلة مثل ما تقدم في ( مسغبة ) .
والمسكين : الفقير ، وتقدم في سورة البقرة عند قوله تعالى : ( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ) و ( ذا متربة ) صفة لمسكين ، جعلت المتربة علامة على الاحتياج بحسب العرف .
والمتربة مصدر بوزن مفعلة أيضا وفعله ( ترب ) ، يقال : ترب ، إذا نام على التراب أي : لم يكن له ما يفترشه على الأرض ، وهو في الأصل كناية عن العرو من الثياب التي تحول بين الجسد والأرض عند الجلوس والاضطجاع ، وقريب منه قولهم في الدعاء : تربت يمينك ، وتربت يداك .
و ( أو ) للتقسيم وهو معنى من معاني ( أو ) جاء من إفادة التخيير .
واعلم أنه إن كان المراد بالإنسان الجنس المخصوص ، أي : المشركين كان نفي فك الرقاب والإطعام كناية عن انتفاء تحليهم بشرائع الإسلام ; لأن من إطعام الجياع والمحاويج ، وفيه تعريض بتعيير المشركين بأنهم إنما يحبون التفاخر والسمعة وإرضاء أنفسهم بذلك ، أو لمؤانسة الأخلاء وذلك غالب أحوالهم ، أي : لم يطعموا يتيما ولا مسكينا في يوم مسغبة ، أي : هو الطعام الذي يرضاه الله ; لأن فيه نفع المحتاجين من عباده . وليس مثل إطعامكم في المآدب والولائم والمنادمة التي لا تعود بالنفع على المطعمين ; لأن تلك المطاعم كانوا يدعون لها أمثالهم من أهل الجدة دون حاجة إلى الطعام ، وإنما يريدون المؤانسة أو المفاخرة . فك الرقاب وإطعام الجياع من القربات التي جاء بها الإسلام
وفي حديث مسلم " " ، وروى شر الطعام طعام الوليمة يمنعها من يأتيها ويدعى إليها من يأباها : " الطبراني شر الطعام طعام الوليمة يدعى إليه الشبعان ويحبس عنه الجائع " .
وإن كان المراد من الإنسان واحدا معينا جاز أن يكون المعنى على نحو ما تقدم ، وجاز أن يكون ذما له باللؤم والتفاخر الكاذب ، وفضحا له بأنه لم يسبق [ ص: 360 ] منه عمل نافع لقومه قبل الإسلام ، فلم يغرم غرامة في فكاك أسير أو مأخوذ بدم أو من بحرية على عبد .
وأيا ما كان فليس في الآية دلالة على أن الله كلف المشركين بهذه القرب ولا أنه عاقبهم على تركهم هذه القربات ، حتى تفرض فيه مسألة ، وهي مسألة قليلة الجدوى وفرضها هنا أقل إجداء . خطاب الكفار بفروع الشريعة
وجملة ( ثم كان من الذين آمنوا ) عطف على جملة ( فلا اقتحم العقبة ) .
و ( ثم ) للتراخي الرتبي فتدل على أن مضمون الجملة المعطوفة بها أرقى رتبة في الغرض المسوق له الكلام من مضمون الكلام المعطوف عليه ، فيصير تقدير الكلام : فلا اقتحم العقبة بفك رقبة أو إطعام بعد كونه مؤمنا . وفي فعل ( كان ) إشعار بأن إيمانه سابق على اقتحام العقبة المطلوبة فيه بطريقة التوبيخ على انتفائها عنه .
فعطف ( ثم كان من الذين آمنوا ) على الجمل المسوقة للتوبيخ والذم يفيد أن هذا الصنف من الناس ، أو هذا الإنسان المعين لم يكن من المؤمنين ، وأنه ملوم على ما فرط فيه لانتفاء إيمانه ، وأنه لو فعل شيئا من هذه الأعمال الحسنة ولم يكن من الذين آمنوا ما نفعه عمله شيئا ; لأنه قد انتفى عنه الحظ الأعظم من الصالحات كما دلت عليه ( ثم ) من التراخي الرتبي ، فهو مؤذن بأنه شرط في الاعتداد بالأعمال .
عائشة " أنها قالت : يا رسول الله ، إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم الطعام ويفك العاني ويعتق الرقاب ويحمل على إبله لله - أي يريد التقرب - فهل ينفعه ذلك شيئا ؟ قال : لا ؛ إنه لم يقل يوما : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين " . ويفهم من الآية بمفهوم صفة ( الذين آمنوا ) أنه لو عمل هذه القرب في الجاهلية وآمن بالله حين جاء الإسلام لكان عمله ذلك محمودا . وعن
ومن يجعل ( ثم ) مفيدة للتراخي في الزمان يجعل المعنى : لا اقتحم العقبة وأتبعها بالإيمان . أي : اقتحم العقبة في الجاهلية وأسلم لما جاء الإسلام .
وقد جاء ذلك صريحا في حديث في الصحيح " قال : حكيم بن حزام . والتحنث : التعبد ، يعني : أن دخوله في الإسلام أفاد إعطاء ثواب على أعماله كأنه عملها في الإسلام . قلت : يا رسول الله ، أرأيت أشياء كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة وصلة [ ص: 361 ] رحم فهل فيها من أجر ؟ فقال لي النبي : أسلمت على ما سلف من خير "
وقال : ( من الذين آمنوا ) دون أن يقول : ثم كان مؤمنا ; لأن كونه من الذين آمنوا أدل على ثبوت الإيمان من الوصف بمؤمن ; لأن صفة الجماعة أقوى من أجل كثرة الموصوفين بها ، فإن كثرة الخير خير ، كما تقدم في قوله تعالى : ( قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ) في سورة البقرة ، ثم في هذه الآية تقوية أخرى للوصف ، وهو جعله بالموصول المشعر بأنهم عرفوا بالإيمان بين الفرق .
وحذف متعلق ( آمنوا ) للعلم به ، أي : آمنوا بالله وحده وبرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ودين الإسلام . فجعل الفعل كالمستغني عن المتعلق .
وأيضا ليتأتى من ذكر الذين آمنوا تخلص إلى الثناء عليهم بقوله : ( وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة ) ولبشارتهم بأنهم أصحاب الميمنة .
وخص بالذكر من أوصاف المؤمنين تواصيهم بالصبر وتواصيهم بالمرحمة ; لأن ذلك أشرف صفاتهم بعد الإيمان ، فإن الصبر ملاك الأعمال الصالحة كلها ; لأنها لا تخلو من كبح الشهوة النفسانية ، وذلك من الصبر .
والمرحمة ملاك صلاح الجامعة الإسلامية ، قال تعالى : ( رحماء بينهم ) .
والتواصي بالرحمة فضيلة عظيمة ، وهو أيضا كناية عن اتصافهم بالمرحمة ; لأن من يوصي بالمرحمة هو الذي عرف قدرها وفضلها ، فهو يفعلها قبل أن يوصي بها كما تقدم في قوله تعالى : ( ولا تحضون على طعام المسكين ) .
وفيه تعريض بأن أهل الشرك ليسوا من أهل الصبر ولا من أهل المرحمة ، وقد صرح بذلك في قوله تعالى : ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ) إلى قوله : ( وما يلقاها إلا الذين صبروا ) وقوله : ( بل لا تكرمون اليتيم ولا تحضون على طعام المسكين ) .