( فأما ) تفريع وتفصيل للإجمال في قوله : ( إن سعيكم لشتى ) فحرف ( أما ) يفيد الشرط والتفصيل وهو يتضمن أداة شرط وفعل شرط لأنه بمعنى : مهما يكن من شيء ، والتفصيل : التفكيك بين متعدد اشتركت آحاده في حالة وانفرد بعضها عن بعض بحالة هي التي يعتنى بتمييزها . وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى : ( فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه ) في سورة الفجر .
والمحتاج للتفصيل هنا هو السعي المذكور ، ولكن جعل التفصيل ببيان الساعين بقوله : ( فأما من أعطى ) لأن المهم هو اختلاف أحوال الساعين ويلازمهم السعي ، فإيقاعهم في التفصيل بحسب مساعيهم يساوي إيقاع المساعي في التفصيل ، وهذا تفنن من أفانين الكلام الفصيح يحصل منه معنيان ، كقول النابغة :
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي على وعل في ذي المطارة عاقل
أي : على مخافة وعل .
ومنه قوله تعالى : ( ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر ) إلخ ، في سورة البقرة .
وقوله تعالى : ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر ) الآية ، أي : كإيمان من آمن بالله .
وانحصر تفصيل ( شتى ) في فريقين : فريق ميسر لليسرى و فريق ميسر للعسرى ; لأن الحالين هما المهم في مقام الحث على الخير ، والتحذير من الشر ، ويندرج فيهما مختلف الأعمال كقوله تعالى : ( يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) في سورة الزلزلة . ويجوز أن يجعل تفصيل ( شتى ) هم من أعطى واتقى وصدق بالحسنى ، ومن بخل واستغنى وكذب بالحسنى ، وذلك عدد يصح أن يكون بيانا لشتى .
[ ص: 382 ] و ( من ) في قوله : ( من أعطى ) إلخ ، وقوله ( من بخل ) إلخ ، يعم كل من يفعل الإعطاء ويتقي ويصدق بالحسنى . وروي أن هذا نزل بسبب أن أبا بكر اشترى بلالا من أمية بن خلف وأعتقه لينجيه من تعذيب أمية بن خلف ، ومن المفسرين من يذكر عوض أبا سفيان بن حرب أمية بن خلف ، وهو وهم .
وقيل : نزلت في قضية مع رجل منافق ستأتي . وهذا الأخير مقتض أن السورة مدنية ، وسبب النزول لا يخص العموم . أبي الدحداح
وحذف مفعول ( أعطى ) لأن فعل الإعطاء إذا أريد به إعطاء المال بدون عوض ، ينزل منزلة اللازم لاشتهار استعماله في إعطاء المال ولذلك يسمى المال الموهوب عطاء ، والمقصود إعطاء الزكاة .
وكذلك حذف مفعول اتقى لأنه يعلم أن المقدر اتقى الله .
وهذه الخلال الثلاث من خلال الإيمان ، فالمعنى : فأما من كان من المؤمنين كما في قوله تعالى : ( قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين ) أي : لم نك من أهل الإيمان .
وكذلك فعل ( بخل ) لم يذكر متعلقه لأنه أريد به البخل بالمال .
و ( استغنى ) جعل مقابلا لـ ( اتقى ) فالمراد به الاستغناء عن امتثال أمر الله ودعوته ; لأن المصر على الكفر المعرض عن الدعوة يعد نفسه غنيا عن الله مكتفيا بولاية الأصنام وقومه ، فالسين والتاء للمبالغة في الفعل ، مثل سين استجاب بمعنى أجاب . وقد يراد به زيادة طلب الغنى بالبخل بالمال ، فتكون السين والتاء للطلب ، وهذه الخلال كناية عن كونه من المشركين .
والحسنى : تأنيث الأحسن فهي بالأصالة صفة لموصوف مقدر ، وتأنيثها مشعر بأن موصوفها المقدر يعتبر مؤنث اللفظ ، ويحتمل أمورا كثيرة مثل المثوبة أو النصر أو العدة أو العاقبة .
وقد يصير هذا الوصف علما بالغلبة ، فقيل : الحسنى الجنة ، وقيل : كلمة [ ص: 383 ] الشهادة ، وقيل : الصلاة ، وقيل : الزكاة . وعلى الوجوه كلها فالتصديق بها الاعتراف بوقوعها ويكنى به عن الرغبة في تحصيلها .
وحاصل الاحتمالات يحوم حول التصديق بوعد الله بما هو حسن من مثوبة أو نصر أو إخلاف ما تلف ، فيرجع هذا التصديق إلى الإيمان .
ويتضمن أنه يعمل الأعمال التي يحصل بها الفوز بالحسنى .
ولذلك قوبل في الشق الآخر بقوله : ( وكذب بالحسنى ) .
والتيسير : جعل شيء يسير الحصول ، ومفعول فعل التيسير هو الشيء الذي يجعل يسيرا ، أي غير شديد ، والمجرور باللام بعده هو الذي يسهل الشيء الصعب لأجله ، وهو الذي ينتفع بسهولة الأمر ، كما في قوله تعالى : ( ويسر لي أمري ) وقوله : ( ولقد يسرنا القرآن للذكر ) .
واليسرى في قوله : ( لليسرى ) هي ما لا مشقة فيه . وتأنيثها : إما بتأويل الحالة ، أي : الحالة التي لا تشق عليه في الآخرة ، وهي حالة النعيم ، أو على تأويلها بالمكانة . وقد فسرت اليسرى بالجنة عن زيد بن أسلم ومجاهد . ويحتمل اللفظ معاني كثيرة تندرج في معاني النافع الذي لا يشق على صاحبه ، أي : الملائم .
والعسرى : إما الحالة وهي حالة العسر والشدة ، وإما مكانته وهي جهنم ، لأنها مكان العسر والشدائد على أهلها ، قال تعالى : ( فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير ) فمعنى ( نيسره ) : ندرجه في عملي السعادة والشقاوة ، وبه فسر ابن عطية ، فالأعمال اليسرى هي الصالحة ، وصفت باليسرى باعتبار عاقبتها لصاحبها ، وتكون العسرى الأعمال السيئة باعتبار عاقبتها على صاحبها ، فتأنيثهما باعتبار أن كلتيهما صفة طائفة من الأعمال .
وحرف التنفيس على هذا التفسير يكون مرادا منه الاستمرار من الآن إلى آخر الحياة كقوله تعالى : ( قال سوف أستغفر لكم ربي ) .
وحرف ( أل ) في ( اليسرى ) وفي ( العسرى ) لتعريف الجنس أو للعهد على اختلاف المعاني .
[ ص: 384 ] وإذ قد جاء ترتيب النظم في هذه الآية على عكس المتبادر ، إذ جعل ضمير الغيبة في ( نيسره لليسرى ) العائد إلى ( من أعطى واتقى ) هو الميسر ، وجعل ضمير الغيبة في ( نيسره للعسرى ) العائد إلى ( من بخل واستغنى ) هو الميسر ، أي : الذي صار الفعل صعب الحصول حاصلا له ، وإذ وقع المجروران باللام : ( اليسرى ) و ( العسرى ) ، وهما لا ينتفعان بسهولة من أعطى أو من بخل ، تعين تأويل نظم الآية بإحدى طريقتين :
الأولى : إبقاء فعل ( نيسر ) على حقيقته وجعل الكلام جاريا على خلاف مقتضى الظاهر بطريق القلب بأن يكون أصل الكلام : فسنيسر اليسرى له وسنيسر العسرى له ، ولا بد من مقتض للقلب ، فيصار إلى أن المقتضي إفادة المبالغة في هذا التيسير حتى جعل الميسر ميسرا له والميسر له ميسرا على نحو ما وجهوا به قول العرب : عرضت الناقة على الحوض .
والثانية : أن يكون التيسير مستعملا مجازا مرسلا في التهيئة والإعداد بعلاقة اللزوم بين إعداد الشيء للشيء وتيسره له ، وتكون اللام من قوله : ( لليسرى ) و ( للعسرى ) لام التعليل ، أي : نيسره لأجل اليسرى أو لأجل العسرى ، فالمراد باليسرى الجنة وبالعسرى جهنم ، على أن يكون الوصفان صارا علما بالغلبة على الجنة وعلى النار ، والتهيئة لا تكون لذات الجنة وذات النار فتعين تقدير مضاف بعد اللام يناسب التيسير فيقدر : لدخول اليسرى ولدخول العسرى ، أي : سنعجل له ذلك .
والمعنى : سنجعل دخول هذا الجنة سريعا ودخول الآخر النار سريعا ، بشبه الميسر من صعوبة ; لأن شأن الصعب الإبطاء وشأن السهل السرعة ، ومنه قوله تعالى : ( ذلك حشر علينا يسير ) أي : سريع عاجل . ويكون على هذا الوجه قوله : ( فسنيسره للعسرى ) مشاكلة بنيت على استعارة تهكمية قرينتها قوله : ( العسرى ) ، والذي يدعو إلى هذا أن فعل ( نيسر ) نصب ضمير من ( أعطى واتقى وصدق ) ، وضمير من ( بخل واستغنى وكذب ) فهو تيسير ناشئ عن حصول الأعمال التي يجمعها معنى ( اتقى ) أو معنى ( استغنى ) فالأعمال سابقة لا محالة . والتيسير مستقبل بعد حصولها فهو [ ص: 385 ] تيسير ما زاد على حصولها ، أي : تيسير الدوام عليها والاستزادة منها .
ويجوز أن يكون معنى الآية : أن يجعل التيسير على حقيقته ويجعل اليسرى وصفا أي : الحالة اليسرى ، والعسرى أي : الحالة غير اليسرى . وليس في التركيب قلب .
والتيسير بمعنى ، ففي صحيح الدوام على العمل عن البخاري علي قال : " بقيع الغرقد في جنازة فقال : ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار ، فقالوا : يا رسول الله أفلا نتكل ؟ فقال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة ، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاء ، ثم قرأ ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ) " اهـ . كنا مع رسول الله في
فصدر الحديث لا علاقة له بما تضمنته هذه الآية ; لأن قوله : " " إلخ ، معناه : قد علم الله أن أحدا سيعمل بعمل أهل الجنة حتى يوافي عليه ، أو سيعمل بعمل أهل النار حتى يوافي عليه ، فقوله : " ما من أحد إلا وقد كتب مقعده " جعلت الكتابة تمثيلا لعلم الله بالمعلومات علما موافقا لما سيكون لا زيادة فيه ولا نقص ، كالشيء المكتوب إذ لا يقبل زيادة ولا نقصا دون المقول الذي لا يكتب فهو لا ينضبط . وقد كتب مقعده
فنشأ سؤال من سأل عن فائدة العمل الذي يعمله الناس ، ومعنى جوابه : أن فائدة العمل الصالح أنه عنوان على العاقبة الحسنة . وذكر مقابله وهو العمل السيئ إتماما للفائدة ولا علاقة له بالجواب .
وليس مجازه مماثلا لما استعمل في هذه الآية لأنه في الحديث علق به عمل أهل السعادة فتعين أن يكون تيسيرا للعمل ، أي : إعدادا وتهيئة للأعمال صالحها أو سيئها .
فالذي يرتبط بالآية من اللفظ النبوي هو أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - أعقب كلامه بأن قرأ ( فأما من أعطى واتقى ) الآية ؛ لأنه قرأها تبيينا واستدلالا لكلامه ، فكان للآية تعلق بالكلام النبوي ، ومحل الاستدلال هو قوله تعالى : ( فسنيسره ) .
[ ص: 386 ] فالمقصود منه إثبات أن من شئون الله تعالى تيسرا للعبد أن يعمل بعمل السعادة أو عمل الشقاء ، سواء كان عمله أصلا للسعادة كالإيمان أو للشقاوة كالكفر ، أم كان العمل مما يزيد السعادة وينقص من الشقاوة وذلك بمقدار الأعمال الصالحة لمن كان مؤمنا ; لأن ثبوت أحد معنيي التيسير يدل على ثبوت جنسه فيصلح دليلا لثبوت التيسير من أصله .
أو يكون المقصود من سوق الآية الاستدلال على قوله : ( اعملوا ) ؛ لأن الآية ذكرت عملا وذكرت تيسيرا لليسرى وتيسيرا للعسرى ، فيكون الحديث إشارة إلى أن العمل هو علامة التيسير ، وتكون اليسرى معنيا بها السعادة والعسرى معنيا بها الشقاوة ، وماصدق السعادة الفوز بالجنة ، وماصدق الشقاوة الهوي في النار .
وإذ كان الوعد بتيسير اليسرى لصاحب تلك الصلات الدالة على أعمال الإعطاء والتقوى والتصديق بالحسنى ، كان سلوك طريق الموصولية للإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو التيسير ، فتعين أن التيسير مسبب عن تلك الصلات ، أي : جزاء عن فعلها . فالمتيسر : تيسير الدوام عليها ، وتكون اليسرى صفة للأعمال ، وذلك من الإظهار في مقام الإضمار . والأصل : مستيسر له أعماله ، وعدل عن الإضمار إلى وصف اليسرى للثناء على تلك الأعمال بأنها ميسرة من الله كقوله تعالى : ( ونيسرك لليسرى ) في سورة الأعلى .
وخلاصة الحديث أنه بيان للفرق بين تعلق علم الله بأعمال عباده قبل أن يعملوها ، وبين تعلق خطابه إياهم بشرائعه ، وأن ما يصدر عن الناس من أعمال ظاهرة وباطنة إلى خاتمة كل أحد وموافاته هو عنوان للناس على ما كان قد علمه الله ، ويلتقي المهيعان في أن العمل هو وسيلة الحصول على الجنة أو الوقوع في جهنم .
وإنما خص الإعطاء بالذكر في قوله : ( فأما من أعطى واتقى ) مع شمول ( اتقى ) لمفاده ، وخص البخل بالذكر في قوله : ( وأما من بخل واستغنى ) مع شمول ( استغنى ) له ، لتحريض المسلمين على الإعطاء ، فالإعطاء والتقوى شعار المسلمين مع التصديق بالحسنى ، وضد الثلاثة من شعار المشركين .
[ ص: 387 ] وفي الآية محسن الجمع مع التقسيم ، ومحسن الطباق ، أربع مرات بين ( أعطى ) و ( بخل ) ، وبين ( اتقى ) و ( استغنى ) ، وبين ( صدق ) و ( كذب ) ، وبين ( اليسرى ) و ( العسرى ) .
وجملة ( وما يغني عنه ماله إذا تردى ) عطف على جملة ( فسنيسره للعسرى ) أي : سنعجل به إلى جهنم . فالتقدير : إذا تردى فيها .
والتردي : السقوط من علو إلى سفل ، يعني : لا يغني عنه ماله الذي بخل به شيئا من عذاب النار .
و ( ما ) يجوز أن تكون نافية . والتقدير : وسوف لا يغني عنه ماله إذا سقط في جهنم ، وتحتمل أن تكون استفهامية وهو استفهام إنكار وتوبيخ . ويجوز على هذا الوجه أن تكون الواو للاستئناف . والمعنى : وما يغني عنه ماله الذي بخل به .
روى عن ابن أبي حاتم عكرمة عن " أنه كانت لرجل من المنافقين نخلة مائلة في دار رجل مسلم ذي عيال ، فإذا سقط منها ثمر أكله صبية لذلك المسلم ، فكان صاحب النخلة ينزع من أيديهم الثمرة ، فشكا المسلم ذلك إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - فكلم النبيء - صلى الله عليه وسلم - صاحب النخلة أن يتركها لهم وله بها نخلة في الجنة ، فلم يفعل ، وسمع ذلك ابن عباس أبو الدحداح الأنصاري فاشترى تلك النخلة من صاحبها بحائط فيه أربعون نخلة ، وجاء إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، اشترها مني بنخلة في الجنة ، فقال : نعم والذي نفسي بيده ، فأعطاها الرجل صاحب الصبية ، قال عكرمة : قال : فأنزل الله تعالى ( ابن عباس والليل إذا يغشى ) إلى قوله : ( للعسرى ) وهو حديث غريب ، ومن أجل قول : فأنزل الله تعالى ( ابن عباس والليل إذا يغشى ) قال جماعة : السورة مدنية . وقد بينا في المقدمة الخامسة أنه كثيرا ما يقع في كلام المتقدمين قولهم : فأنزل الله في كذا قوله كذا ، أنهم يريدون [ ص: 388 ] به أن القصة مما تشمله الآية . وروي أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - قال : " لأبي الدحداح . ولمح إليها كم من عذق رداح في الجنة في قوله : بشار بن برد
إن النحيلة إذ يميل بها الهوى كالعذق مال على أبي الدحداح