بيان أول لشيء من الإبهام الذي في قوله : وما أدراك ما ليلة القدر مثل البيان في قوله : وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام الآية . فلذلك فصلت الجملة لأنها استئناف بياني ، أو لأنها كعطف البيان .
وتفضيلها بالخير على ألف شهر ، إنما هو بتضعيف فضل ما يحصل فيها من الأعمال الصالحة واستجابة الدعاء ووفرة ثواب الصدقات والبركة للأمة فيها ; لأن تفاضل الأيام لا يكون بمقادير أزمنتها ولا بما يحدث فيها من حر أو برد ، أو مطر ، ولا بطولها أو بقصرها ؛ فإن تلك الأحوال غير معتد بها عند الله تعالى ؛ ولكن الله يعبأ بما يحصل من الصلاح للناس أفرادا وجماعات وما يعين على الحق والخير ونشر الدين . وقد قال في فضل الناس : إن أكرمكم عند الله أتقاكم فكذلك فضل الأزمان إنما يقاس بما يحصل فيها ; لأنها ظروف للأعمال وليست لها صفات ذاتية يمكن أن تتفاضل بها كتفاضل الناس ، ففضلها بما أعده الله لها من التفضيل ، وعدد الألف يظهر أنه مستعمل في وفرة التكثير كقوله : ( واجد كألف ) وعليه جاء قوله تعالى : كتفضيل ثلث الليل الأخير للقربات يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ، وإنما جعل تمييز عدد الكثرة هنا بالشهر للرعي على الفاصلة التي هي بحرف الراء . وفي الموطأ : " قال مالك إنه سمع من يثق به من أهل العلم يقول : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أري أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك ، فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثلما بلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر " اهـ .
وإظهار لفظ ( ليلة القدر ) في مقام الإضمار للاهتمام ، وقد تكرر هذه اللفظ ثلاث مرات والمرات الثلاث ينتهي عندها التكرير غالبا كقوله تعالى : وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب .
وقول عدي :
لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
ومما ينبغي التنبيه له ما وقع في جامع الترمذي بسنده إلى القاسم بن الفضل [ ص: 460 ] الحداني عن يوسف بن سعد قال : ( قام رجل إلى الحسن بن علي بعدما بايع معاوية فقال : سودت وجوه المؤمنين ، أو يا مسود وجوه المؤمنين ؛ فقال : لا تؤنبني رحمك الله ؛ فإن النبيء - صلى الله عليه وسلم - أري بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت " إنا أعطيناك الكوثر " يا محمد يعني : نهرا من الجنة ، ونزلت " إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر " يملكها بنو أمية يا محمد ، قال القاسم : فعددناها فإذا هي ألف شهر لا يزيد يوما ولا ينقص ) . قال : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه . وقد قيل عن أبو عيسى الترمذي عن القاسم بن الفضل يوسف بن مازن نعرفه ثقة والقاسم بن الفضل ويوسف بن سعد رجل مجهول اهـ .
قال ابن كثير في تفسيره : ورواه من طريق ابن جرير القاسم في الفضل عن عيسى بن مازن كذا قال ، وعيسى بن مازن غير معروف ، وهذا يقتضي اضطرابا في هذا الحديث ، أي : لاضطرابهم في الذي يروي عنه وعلى كل احتمال فهو مجهول . القاسم بن الفضل ؛
وأقول : وأيضا ليس في سنده ما يفيد أن يوسف بن سعد سمع ذلك من الحسن - رضي الله عنه - وفي تفسير عن الطبري عيسى بن مازن أنه قال : قلت للحسن : يا مسود وجوه المؤمنين إلى آخر الحديث . وعيسى بن مازن غير معروف أصلا ؛ فإذا فرضنا توثيق يوسف بن سعد فليس في روايته ما يقتضي أنه سمعه ، بل يجوز أن يكون أراد ذكر قصة تروى عن الحسن .
واتفق حذاق العلماء على أنه حديث منكر ؛ صرح بذلك ابن كثير وذكره عن شيخه المزي ، وأقول : هو مختل المعنى وسمات الوضع لائحة عليه ، وهو من وضع أهل النحل المخالفة للجماعة ؛ فالاحتجاج به لا يليق أن يصدر مثله عن الحسن مع فرط علمه وفطنته ، وأية ملازمة بين ما زعموه من رؤيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين دفع الحسن التأنيب عن نفسه . ولا شك أن هذا الخبر من وضع دعاة العباسيين على أنه مخالف للواقع ; لأن المدة التي بين تسليم الحسن الخلافة إلى معاوية وبين بيعة وهو أول خلفاء العباسية ألف شهر واثنان وتسعون شهرا أو أكثر بشهر أو بشهرين ، فما نسب إلى السفاح القاسم الحداني من قوله : فعددناها فوجدناها إلخ كذب [ ص: 461 ] لا محالة . والحاصل أن هذا الخبر الذي أخرجه الترمذي منكر كما قاله المزي .
قال وفي قوله : ابن عرفة ليلة القدر خير من ألف شهر المحسن المسمى تشابه الأطراف وهو إعادة لفظ القافية في الجملة التي تليها كقوله تعالى : كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري اهـ . يريد بالقافية ما يشمل القرينة في الأسجاع والفواصل في الآي . ومثاله في الشعر قول ليلى الأخيلية :
إذا نزل الحجاج أرضا مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة سقاها