[ ص: 116 ] عطف على قوله ومن ينقلب على عقبيه الآية وما بينهما اعتراض ، وهو عطف العبرة على الموعظة فإن قوله ومن ينقلب على عقبيه موعظة لمن يهم بالانقلاب ، وقوله وكأين من نبيء قتل عبرة بما سلف من في حرب أو غيره ، لمماثلة الحالين . فالكلام تعريض صبر أتباع الرسل والأنبياء عند إصابة أنبيائهم أو قتلهم لأن محل المثل ليس هو خصوص الانهزام في الحرب بل ذلك هو الممثل . وأما التشبيه فهو بصبر الأتباع عند حلول المصائب أو موت المتبوع . بتشبيه حال أصحاب أحد بحال أصحاب الأنبياء السالفين
( وكأين ) كلمة بمعنى التكثير ، قيل : هي بسيطة موضوعة للتكثير ، وقيل : هي مركبة من كاف التشبيه وأي الاستفهامية وهو قول الخليل وليست ( أي ) هذه استفهاما حقيقيا ، ولكن المراد منها تذكير المستفهم بالتكثير ، فاستفهامها مجازي ، ونونها في الأصل تنوين ، فلما ركبت وصارت كلمة واحدة جعل تنوينها نونا وبنيت . والأظهر أنها بسيطة وفيها لغات أربع ، أشهرها في النثر كأين بوزن كعين ( هكذا جرت عادة اللغويين والنحاة إذا وزنوا الكلمات المهموزة أن يعوضوا عن حرف الهمزة بحرف العين لئلا تلتبس الهمزة بالألف أو الياء التي تكتب في صورة إحداهما ، وأشهرها في الشعر كائن بنون اسم فاعل كان ، وليست باسم فاعل خلافا للمبرد ، بل هي مخفف كأين . وسيبويه ،
ولهم في كيفية تخفيفها توجيهات أصلها قول الخليل لما كثر استعمالها تصرف فيها العرب بالقلب والحذف في بعض الأحوال . قلت : وتفصيله يطول . وأنا أرى أنهم لما راموا التخفيف جعلوا الهمزة ألفا ، ثم التقى ساكنان على غير حده ، فحذفوا الياء الساكنة فبقيت الياء المكسورة فشابهت اسم فاعل ( كان ) فجعلوها همزة كالياء التي تقع بعد ألف زائدة ، وأكثر ما وقع في كلام العرب هو كأين لأنها أخف في النظم وأسعد بأكثر الموازين في أوائل الأبيات وأوسطها بخلاف كائن ، قال : اللغتان الجيدتان كأين وكائن . وحكى الشيخ الزجاج في تفسيره عن شيخه ابن عرفة ابن الحباب قال : أخبرنا شيخنا [ ص: 117 ] قال : قلت لشيخنا أحمد بن يوسف السلمي الكناني ابن عصفور : لم أكثرت في شرحك للإيضاح من الشواهد على كائن ؟ فقال : لأني دخلت على السلطان الأمير المستنصر ، يعني محمد المستنصر ابن أبي زكرياء الحفصي ، والظاهر أنه حينئذ ولي العهد ، فوجدت ابن هشام ، يعني محمد بن يحيى بن هشام الخضراوي نزيل تونس ودفينها المتوفى سنة 646 فأخبرني أنه سأله عما يحفظ من الشواهد على قراءة كأين فلم يستحضر غير بيت الإيضاح :
وكائن بالأباطح من صديق يراني لو أصبت هو المصابا
قال ابن عصفور : فلما سألني أنا قلت : أحفظ فيها خمسين بيتا فلما أنشدته نحو عشرة قال : حسبك ، وأعطاني خمسين دينارا ، فخرجت فوجدت ابن هشام جالسا بالباب فأعطيته نصفها .وقرأ الجمهور ( وكأين ) بهمزة مفتوحة بعد الكاف وياء تحتية مشددة بعد الهمزة ، على وزن كلمة ( كصيب ) وقرأه ابن كثير ( كائن ) بألف بعد الكاف وهمزة مكسورة بعد الألف بوزن كاهن .
والتكثير المستفاد من ( كأين ) واقع على تمييزها وهو لفظ نبيء فيحتمل أن يكون تكثيرا بمعنى مطلق العدد ، فلا يتجاوز جمع القلة ، ويحتمل أن يكون تكثيرا في معنى جمع الكثرة ، فمنهم من علمناه ومنهم من لم نعلمه ، كما قال تعالى : ومنهم من لم نقصص عليك ، ويحضرني : أسماء ستة ممن قتل من الأنبياء أرمياء قتله بنو إسرائيل ، وحزقيال قتلوه أيضا لأنه وبخهم على سوء أعمالهم ، وأشعياء قتله منسا بن حزقيل ملك إسرائيل لأنه وبخه ووعظه على سوء فعله فنشره بمنشار ، وزكرياء ، ويحيى ، قتلهما بنو إسرائيل لإيمانهما بالمسيح ، وقتل أهل الرس من العرب نبيئهم حنظلة بن صفوان في مدة عدنان ، والحواريون اعتقدوا أن المسيح قتل ولم يهنوا في إقامة دينه بعده ، وليس مرادا هنا وإنما العبرة بثبات أتباعه على دينه مع مفارقته لهم إذ العبرة في خلو الرسول وبقاء أتباعه ، سواء كان بقتل أو غيره . وليس في هؤلاء رسول إلا حنظلة بن صفوان ، وليس فيهم أيضا من قتل في جهاد ، قال : ما سمعنا بنبيء قتل في القتال . [ ص: 118 ] وقرأ سعيد بن جبير نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب ، وأبو بكر عن عاصم : ( قتل ) بصيغة المبني للمجهول ، وقرأه ابن عامر ، وحمزة وعاصم ، والكسائي ، وخلف ، وأبو جعفر : ( قاتل ) بصيغة المفاعلة فعلى قراءة ( قتل ) - بالبناء للمجهول - فمرفوع الفعل هو ضمير نبيء ، وعلى كلتا القراءتين يجوز أن يكون مرفوع الفعلين ضمير نبيء فيكون قوله ( معه ربيون ) جملة حالية من نبيء ويجوز أن يكون مرفوع الفعلين لفظ ( ربيون ) فيكون قوله معه حالا من ربيون مقدما .
وجاءت هذه الآية على هذا النظم البديع الصالح لحمل الكلام على - وعلى الوجهين في موقع جملة تثبيت المسلمين في حال الهزيمة وفي حال الإرجاف بقتل النبيء - صلى الله عليه وسلم معه ربيون يختلف حسن الوقف على كلمة ( قتل ) أو على كلمة ( كثير ) .
والربيون جمع ربي وهو المتبع لشريعة الرب مثل الرباني ، والمراد بهم هنا أتباع الرسل وتلامذة الأنبياء . ويجوز في رائه الفتح ، على القياس ، والكسر ، على أنه من تغييرات النسب وهو الذي قرئ به في المتواتر .
ومحل العبرة هو ثبات الربانيين على الدين مع موت أنبيائهم ودعاتهم .
وقوله ( كثير ) صفة ( ربيون ) وجيء به على صيغة الإفراد ، مع أن الموصوف جمع ، لأن لفظ كثير وقليل يعامل موصوفها معاملة لفظ شيء أو عدد ، قال تعالى : وبث منهما رجالا كثيرا ونساء وقال ود كثير من أهل الكتاب وقال واذكروا إذ أنتم قليل وقال إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا .
وقوله فما وهنوا أي الربيون إذ من المعلوم أن الأنبياء لا يهنون فالقدوة المقصودة هنا ، هي الاقتداء بأتباع الأنبياء ، أي لا ينبغي أن يكون أتباع من مضى من الأنبياء ، أجدر بالعزم من أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وجمع بين الوهن والضعف ، وهما متقاربان تقاربا قريبا من الترادف; فالوهن قلة القدرة على العمل ، وعلى النهوض في الأمر ، وفعله كوعد وورث [ ص: 119 ] وكرم . والضعف بضم الضاد وفتحها ضد القوة في البدن ، وهما هنا مجازان ، فالأول أقرب إلى خور العزيمة ، ودبيب اليأس في النفوس والفكر ، والثاني أقرب إلى الاستسلام والفشل في المقاومة . وأما الاستكانة فهي الخضوع والمذلة للعدو . ومن اللطائف ترتيبها في الذكر على حسب ترتيبها في الحصول : فإنه إذا خارت العزيمة فشلت الأعضاء ، وجاء الاستسلام ، فتبعه المذلة والخضوع للعدو .
واعلموا أنه إذا كان هذا شأن أتباع الأنبياء ، وكانت النبوة هديا وتعليما ، فلا بدع أن يكون هذا شأن أهل العلم ، وأتباع الحق ، أن لا يوهنهم ، ولا يضعفهم ، ولا يخضعهم ، مقاومة مقاوم ، ولا أذى حاسد ، أو جاهل ، وفي الحديث الصحيح في البخاري : خبابا قال للنبيء - صلى الله عليه وسلم - لقد لقينا من المشركين شدة ألا تدعو الله فقعد وهو محمر وجهه فقال لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ، ما يصرفه ذلك عن دينه ، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه الحديث . أن
وقوله تعالى وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا الآية عطف على ( فما وهنوا ) لأنه لما وصفهم برباطة الجأش ، وثبات القلب ، وصفهم بعد ذلك بما يدل على الثبات من أقوال اللسان التي تجري عليه عند الاضطراب والجزع ، أي أن ما أصابهم لم يخالجهم بسببه تردد في صدق وعد الله ، ولا بدر منهم تذمر ، بل علموا أن ذلك لحكمة يعلمها سبحانه ، أو لعله كان جزاء على تقصير منهم في القيام بواجب نصر دينه ، أو في الوفاء بأمانة التكليف ، فلذلك ابتهلوا إليه عند نزول المصيبة بقولهم ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا خشية أن يكون ما أصابهم جزاء على ما فرط منهم ، ثم سألوه النصر وأسبابه ثانيا فقالوا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فلم يصدهم ما لحقهم من الهزيمة عن رجاء النصر ، وفي الموطأ ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقصر قولهم في تلك الحالة التي يندر [ ص: 120 ] فيها صدور مثل هذا القول ، على قولهم يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول : دعوت فلم يستجب لي ربنا اغفر لنا إلى آخره ، فصيغة القصر في قوله وما كان قولهم إلا أن قالوا قصر إضافي لرد اعتقاد من قد يتوهم أنهم قالوا أقوالا تنبئ عن الجزع ، أو الهلع ، أو الشك في النصر ، أو الاستسلام للكفار . وفي هذا القصر تعريض بالذين جزعوا من ضعفاء المسلمين أو المنافقين فقال قائلهم : لو كلمنا عبد الله بن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان .
وقدم خبر كان على اسمها في قوله وما كان قولهم إلا أن قالوا لأنه خبر عن مبتدأ محصور ، لأن المقصود حصر أقوالهم حينئذ في مقالة ربنا اغفر لنا ذنوبنا فالقصر حقيقي لأنه لقولهم الصادر منهم ، حين حصول ما أصابهم في سبيل الله ، فذلك القيد ملاحظ من المقام ، نظير القصر في قوله تعالى إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا فهو قصر حقيقي مقيد بزمان خاص ، تقييدا منطوقا به ، وهذا أحسن من توجيه تقديم الخبر في الآية بأن المصدر المنسبك المئول أعرف من المصدر الصريح لدلالة المئول على النسبة وزمان الحدث ، بخلاف إضافة المصدر الصريح ، وذلك جائز في باب ( كان ) في غير صيغ القصر ، وأما في الحصر فمتعين تقديم المحصور .
والمراد من الذنوب جميعها ، وعطف عليه بعض الذنوب وهو المعبر عنه هنا بالإسراف في الأمر ، هو الإفراط وتجاوز الحد ، فلعله أريد به الكبائر من الذنوب كما نقل عن والإسراف وجماعة ، وعليه فالمراد بقوله : ( أمرنا ) ، أي ديننا وتكليفنا ، فيكون عطف خاص للاهتمام بطلب غفرانه ، وتمحض المعطوف عليه حينئذ لبقية الذنوب وهي الصغائر . ويجوز عندي أن يكون المراد بالإسراف في الأمر التقصير في شأنهم ونظامهم فيما يرجع إلى أهبة القتال ، والاستعداد له ، أو الحذر من العدو ، وهذا الظاهر من كلمة أمر ، بأن يكونوا شكوا أن يكون ما أصابهم من هزيمتهم في الحرب مع عدوهم ناشئا عن سببين : باطن وظاهر ، فالباطن هو غضب الله عليهم من جهة الذنوب ، والظاهر هو تقصيرهم في الاستعداد والحذر ، وهذا أولى من الوجه الأول . ابن عباس
[ ص: 121 ] وقوله : فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة إعلام بتعجيل إجابة دعوتهم لحصول خيري الدنيا والآخرة ، فثواب الدنيا هو الفتح والغنيمة ، وثواب الآخرة هو ما كتب لهم من حسن عاقبة الآخرة ، ولذلك وصفه بقوله وحسن ثواب الآخرة لأنه خير وأبقى ، وتقدم الكلام على الثواب عند قوله تعالى في سورة البقرة لمثوبة من عند الله خير .
وجملة والله يحب المحسنين تذييل أي يحب كل محسن ، وموقع التذييل يدل على أن المتحدث عنهم هم من الذين أحسنوا ، فاللام للجنس المفيد معنى الاستغراق ، وهذه من أكبر الأدلة على أن ( ال ) الجنسية إذا دخلت على جمع أبطلت منه معنى الجمعية ، وأن الاستغراق المفاد من ( ال ) إذا كان مدخولها مفردا وجملة سواء .