سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبئاء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد .
استئناف جملة لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء لمناسبة ذكر البخل لأنهم قالوه في معرض دفع الترغيب في الصدقات ، والذين قالوا ذلك هم اليهود كما هو صريح آخر الآية في قوله ( وقتلهم الأنبياء بغير حق ) ، وقائل ذلك : قيل هو حيي بن أخطب اليهودي ، حبر اليهود ، لما سمع قوله تعالى من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فقال حيي : إنما يستقرض الفقير الغني ، وقيل : قاله فنحاص بن عازوراء بسبب لأبي بكر الصديق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل أبا بكر إلى يهود قينقاع يدعوهم ، فأتى بيت المدراس فوجد جماعة منهم قد اجتمعوا على فنحاص حبرهم ، فدعاهم أبو بكر ، فقال فنحاص : ما بنا إلى الله من حاجة ، وإنه إلينا لفقير ولو كان غنيا لما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم ، فغضب أبو بكر ولطم فنحاص وهم بقتله ، فنزلت الآية . وشاع قولهما في اليهود .
وقوله لقد سمع الله تهديد ، وهو يؤذن بأن هذا القول جراءة عظيمة ، وإن كان القصد منها التعريض ببطلان كلام القرآن ، لأنهم أتوا بهاته العبارة بدون محاشاة ، ولأن ، ولذلك قال تعالى الاستخفاف بالرسول وقرآنه إثم عظيم وكفر على كفر لقد سمع المستعمل في لازم معناه ، وهو التهديد على كلام فاحش ، إذ قد علم أهل الأديان أن الله يعلم خائنة الأعين [ ص: 184 ] وما تخفي الصدور ، فليس المقصود إعلامهم بأن الله علم ذلك بل لازمه وهو مقتضى قوله سنكتب ما قالوا . والمراد بالكتابة إما كتابته في صحائف آثامهم إذ لا يخطر ببال أحد أن يكتب في صحائف الحسنات ، وهذا بعيد ، لأن وجود علامة الاستقبال يؤذن بأن الكتابة أمر يحصل فيما بعد . فالظاهر أنه أريد من الكتابة عدم الصفح عنه ولا العفو بل سيثبت لهم ويجازون عنه فتكون الكتابة كناية عن المحاسبة . فعلى الأول يكون وعيدا وعلى الثاني يكون تهديدا .
وقرأ الجمهور ( سنكتب ما قالوا وقتلهم ) بنون العظمة من ( سنكتب ) وبنصب اللام من ( قتلهم ) على أنه مفعول ( نكتب ) و ( نقول ) بنون . وقرأه حمزة : ( سيكتب ) بياء الغائب مضمومة ، وفتح المثناة الفوقية مبنيا للنائب لأن فاعل الكتابة معلوم وهو الله تعالى ، وبرفع اللام من ( قتلهم ) على أنه نائب فاعل . ( ويقول ) بياء الغائب ، والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله " إن الله " .
وعطف قوله ( وقتلهم الأنبياء بغير حق ) زيادة في مذمتهم بذكر مساوي أسلافهم ، لأن الذين قتلوا الأنبياء هم غير الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء بل هم من أسلافهم ، فذكر هنا ليدل على أن هذه شنشنة قديمة فيهم ، وهي الاجتراء على الله ورسله ، واتحاد الضمائر مع اختلاف المعاد طريقة عربية في المحامد والمذام التي تناط بالقبائل . قال الحجاج في خطبته بعد يوم دير الجماجم يخاطب أهل العراق : ألستم أصحابي بالأهواز حين أضمرتم الشر واستبطنتم الكفر إلى أن قال : ثم يوم الزاوية وما يوم الزاوية . . إلخ ، مع أن فيهم من مات ومن طرأ بعد .
وقوله ونقول ذوقوا عذاب الحريق عطف أثر الكتب على الكتب أي سيجازون عن ذلك بدون صفح ، ونقول ذوقوا وهو أمر الله بأن يدخلوا النار .
والذوق حقيقته إدراك الطعوم ، واستعمل هنا مجازا مرسلا في الإحساس بالعذاب فعلاقته الإطلاق ، ونكتته أن الذوق في العرف يستتبع تكرر ذلك الإحساس لأن الذوق يتبعه الأكل ، وبهذا الاعتبار يصح أن يكون " ذوقوا " استعارة .
[ ص: 185 ] وقد شاع في كلام العرب إطلاق الذوق على الإحساس بالخير أو بالشر ، وورد في القرآن كثيرا .
والإشارة في قوله ذلك بما قدمت أيديكم للعذاب المشاهد يومئذ ، وفيه تهويل للعذاب . والباء للسببية للتنبيه على أن هذا العذاب لعظم هوله مما يتساءل عن سببه . وعطف قوله وأن الله ليس بظلام للعبيد على مجرور الباء ، ليكون لهذا العذاب سببان : ما قدمته أيديهم ، وعدل الله تعالى ، فما قدمت أيديهم أوجب حصول العذاب ، وعدل الله أوجب كون هذا العذاب في مقداره المشاهد من الشدة حتى لا يظنون أن في شدته إفراطا عليهم في التعذيب .