يجوز أن يكون استئنافا ابتدائيا ، جيء به عقب الأمر بالإحسان لمن جرى ذكرهم في الجملة السابقة ، ومناسبة إرداف التحريض على الإحسان التحذير من ضده وما يشبه ضده من كل إحسان غير صالح ; فقوبل الخلق الذي دعاهم الله إليه بأخلاق أهل الكفر وحزب الشيطان كما دل عليه ما في خلال هذه الجملة من ذكر الكافرين الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر .
ويكون قوله : الذين يبخلون مبتدأ ، وحذف خبره ودل عليه قوله : وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا . وقصد العدول عن العطف : لتكون مستقلة ، ولما فيه من فائدة العموم ، وفائدة الإعلام بأن هؤلاء من الكافرين . فالتقدير : الذين يبخلون أعتدنا لهم عذابا مهينا وأعتدنا ذلك للكافرين أمثالهم ، وتكون جملة والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس معطوفة أيضا على جملة الذين يبخلون محذوفة الخبر أيضا ، يدل عليه قوله : ومن يكن الشيطان له قرينا إلخ . والتقدير : والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس قرينهم الشيطان . ونكتة العدول إلى العطف مثل نكتة ما قبلها .
ويجوز أن يكون الذين يبخلون بدلا من " من " في قوله : من كان مختالا فخورا فيكون قوله : والذين ينفقون أموالهم معطوفا على الذين يبخلون ، وجملة " وأعتدنا " معترضة . وهؤلاء هم المشركون المتظاهرون بالكفر ، وكذلك المنافقون .
والبخل بضم الباء وسكون الخاء اسم مصدر بخل من باب فرح ، ويقال البخل بفتح الباء والخاء وهو مصدره القياسي ، قرأه الجمهور بضم الباء وقرأه حمزة ، وخلف بفتح الباء والخاء . والكسائي ،
[ ص: 53 ] والبخل : ضد الجود وقد مضى عند قوله تعالى : ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله في سورة آل عمران . ومعنى يأمرون الناس بالبخل يحضون الناس عليه ، وهذا أشد البخل ، قال أبو تمام :
وإن امرأ ضنت يداه على امرئ بنيل يد من غيره لـبـخـيل
والكتمان : الإخفاء . و ما آتاهم الله من فضله يحتمل أن المراد به المال ، كقوله تعالى : ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله ، فيكون المعنى : أنهم يبخلون ويعتذرون بأنهم لا يجدون ما ينفقون منه ، ويحتمل أنه أريد به كتمان التوراة بما فيها من صفة النبيء - صلى الله عليه وسلم - فعلى الاحتمال الأول يكون المراد بالذين يبخلون : المنافقين ، وعلى الثاني يكون المراد بهم : اليهود ; وهذا المأثور عن ويجوز أن تكون في المنافقين ، فقد كانوا يأمرون الناس بالبخل ابن عباس ، هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا . وقوله : وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ، عقبه ، يؤذن بأن المراد أحد هذين الفريقين ، وجملة وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا معترضة .وأصل ( أعتدنا ) أعددنا ، أبدلت الدال الأولى تاء ، لثقل الدالين عند فك الإدغام باتصال ضمير الرفع ، وهكذا مادة أعد في كلام العرب إذا أدغموها لم يبدلوا الدال بالتاء لأن الإدغام أخف ، وإذا أظهروا أبدلوا الدال تاء ، ومن ذلك قولهم : ( عتاد ) لعدة السلاح ، وأعتد جمع عتاد .
ووصف العذاب بالمهين جزاء لهم على الاختيال والفخر .
وعطف الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس على الذين يبخلون : لأنهم أنفقوا إنفاقا لا تحصل به فائدة الإنفاق غالبا ، لأن من ينفق ماله رئاء لا يتوخى به مواقع الحاجة ، فقد يعطي الغني ويمنع الفقير ، وأريد بهم هنا المنفقون من المنافقين والمشركين ، ولذلك وصفوا بأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، وقيل : أريد بهم المشركون من أهل مكة ، وهو بعيد ، لأن أهل مكة قد انقطع الجدال معهم بعد الهجرة .
وجملة ومن يكن الشيطان له قرينا معترضة .
[ ص: 54 ] وقوله : فساء قرينا جواب الشرط ، والضمير المستتر في " ساء " : إن كان عائدا إلى الشيطان فـ " ساء " بمعنى بئس ، والضمير فاعلها ، وقرينا تمييز للضمير ، مثل قوله تعالى : ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا ، أي : فساء قرينا له ، ليحصل الربط بين الشرط وجوابه ، ويجوز أن تبقى ( ساء ) على أصلها ضد حسن ، وترفع ضميرا عائدا على " من " ويكون ( قرينا ) تمييز نسبة ، كقولهم ساء سمعا فساء إجابة أي فساء من كان الشيطان قرينه من جهة القرين ، والمقصود على كلا الاحتمالين سوء حال من كان الشيطان له قرينا بإثبات سوء قرينه ; إذ المرء يعرف بقرينه ، كما قال : عدي بن زيد
فكل قرين بالمقارن يقتدي
وقوله : وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر عطف على الجملتين ، وضمير الجمع عائد إلى الفريقين ، والمقصود استنزال طائرهم ، وإقامة الحجة عليهم ." وماذا " استفهام ، وهو هنا إنكاري توبيخي . و ( ذا ) إشارة إلى ( ما ) ، والأصل أن يجيء بعد ( ذا ) اسم موصول نحو من ذا الذي يشفع عنده . وكثر في كلام العرب حذفه وإبقاء صلته لكثرة الاستعمال ، فقال النحاة : نابت ( ذا ) مناب الموصول ، فعدوها في الموصولات وما هي منها في قبيل ولا دبير ، ولكنها مؤذنة بها في بعض المواضع . و ( على ) ظرف مستقر هو صلة الموصول ، فهو مؤول بكون . و ( على ) للاستعلاء المجازي بمعنى الكلفة والمشقة ، كقولهم : عليك أن تفعل كذا . ( ولو آمنوا ) شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه ، وقد قدم دليل الجواب اهتماما بالاستفهام ، كقول قتيلة بنت الحارث :
ما كان ضرك لو مننت وربما من الفتى وهو المغيظ المحنق
ثم إذا ظهر أن التفريط في أخف الحالين وأسدهما أمر نكر ، ظهر أن المفرط في ذلك ملوم ، إذ لم يأخذ لنفسه بأرشد الخلتين ، فالكلام مستعمل في التوبيخ استعمالا [ ص: 55 ] كنائيا بواسطتين . والملام متوجه للفريقين : الذين يبخلون والذين ينفقون رئاء ، لقوله : لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله على عكس ترتيب الكلام السابق .
وجملة وكان الله بهم عليما معترضة في آخر الكلام ، وهي تعريض بالتهديد والجزاء على سوء أعمالهم .