عطف ( وبكفرهم ) مرة ثانية على قوله ( فبما نقضهم ) ولم يستغن عنه بقوله " وكفرهم بآيات الله " ، وأعيد مع ذلك حرف الجر الذي يغني عنه حرف العطف قصدا للتأكيد ، واعتبر العطف لأجل بعد ما بين اللفظين ، ولأنه في مقام التهويل لأمر الكفر ; فالمتكلم يذكره ويعيده : يتثبت ويري أنه لا ريبة في إناطة الحكم به ، ونظير هذا التكرير قول لبيد :
فتنازعا سبطا يطير ظلالـه كدخان مشعلة يشب ضرامها مشمولة غلثت بنابت عرفـج
كدخان نار ساطع أسنامهـا
واللؤم أكرم من وبـر ووالـده واللؤم أكرم من وبر وما ولدا
والبهتان مصدر ( بهته ) إذا أتاه بقول أو عمل لا يترقبه ولا يجد له جوابا ، والذي يتعمد ذلك بهوت ، وجمعه : بهت وبهت . وقد زين اليهود ما شاءوا في الإفك على مريم - عليها السلام - . أما قولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم ، فمحل المؤاخذة عليهم منه : هو أنهم قصدوا أن يعدوا هذا الإثم في مفاخر أسلافهم الراجعة إلى الإخلاف بالعهد المبين في سبيل نصر الدين .
والمسيح كان لقبا لعيسى عليه السلام لقبه به اليهود تهكما عليه ; لأن معنى المسيح في اللغة العبرية بمعنى الملك . كما تقدم في قوله تعالى ( اسمه المسيح عيسى ابن مريم ) في سورة آل عمران ، وهو لقب قصدوا منه التهكم ، فصار لقبا له بينهم . وقلب الله قصدهم تحقيره فجعله تعظيما له . ونظيره ما كان يطلق بعض المشركين على النبيء محمد - صلى الله عليه وسلم - اسم مذمم ، قالت امرأة أبي لهب : مذمما عصينا ، وأمره أبينا . فقال النبيء - صلى الله عليه وسلم - قريش ولعنهم ، يشتمون ويلعنون مذمما وأنا محمد . ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم
[ ص: 20 ] وقوله ( رسول الله ) إن كان من الحكاية : فالمقصود منه الثناء عليه والإيماء إلى أن الذين يتبجحون بقتله أحرياء بما رتب لهم على قولهم ذلك ، فيكون نصب رسول الله على المدح ، وإن كان من المحكي : فوصفهم إياه منه التهكم ، كقول المشركين للنبيء - صلى الله عليه وسلم - ( يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون ) وقول أهل مدين لشعيب ( أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد ) فيكون نصب رسول الله على النعت للمسيح .
وقوله ( وما قتلوه ) الخ الظاهر أن الواو فيه للحال ، أي قولهم ذلك في حال أنهم ما قتلوه ، وليس خبرا عن نفي القتل لأنه لو كان خبرا لاقتضى الحال تأكيده بمؤكدات قوية ، ولكنه لما كان حالا من فاعل القول المعطوف على أسباب لعنهم ومؤاخذتهم كانت تلك الأسباب مفيدة ثبوت كذبهم ، على أنه يجوز كونه خبرا معطوفا على الجمل المخبر بها عنهم ، ويكون تجريده من المؤكدات : إما لاعتبار أن المخاطب به هم المؤمنون ، وإما لاعتبار هذا الخبر غنيا عن التأكيد ، فيكون ترك التأكيد تخريجا على خلاف مقتضى الظاهر ، وإما لكونه لم يتلق إلا من الله العالم بخفيات الأمور ، فكان أعظم من أن يؤكد .
وعطف ( وما صلبوه ) لأن الصلب قد يكون دون القتل ، فقد كانوا ربما صلبوا الجاني تعذيبا له ثم عفوا عنه ، وقال تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا .
والمشهور في الاستعمال : أن الصلب هو أن يوثق المعدود للقتل على خشبة بحيث لا يستطيع التحرك ثم يطعن بالرمح أو يرمى بسهم ، وكذلك كانوا يزعمون أن عيسى صلب ثم طعن برمح في قلبه .
وجملة ( ولكن شبه لهم ) استدراك ، والمستدرك هو ما أفاده ( وما قتلوه ) من كون هذا القول لا شبهة فيه . وأنه اختلاق محض ، فبين بالاستدراك أن أصل ظنهم أنهم قتلوه أنهم توهموا أنهم قتلوه ، وهي شبهة أوهمت اليهود [ ص: 21 ] أنهم قتلوا المسيح ، وهي ما رأوه ظاهرا من وقوع قتل وصلب على ذات يعتقدونها ذات المسيح ، وبهذا وردت الآثار في تأويل كيفية معنى الشبه .
وقوله ( شبه لهم ) يحتمل أن يكون معناه : أن اليهود الذين زعموا قتلهم المسيح في زمانهم قد شبه لهم مشبه بالمسيح فقتلوه ، ونجى الله المسيح من إهانة القتل ، فيكون قوله ( شبه ) فعلا مبنيا للمجهول ، مشتقا من الشبه ، وهو المماثلة في الصورة . وحذف المفعول الذي حقه أن يكون نائب فاعل ( شبه ) لدلالة فعل ( شبه ) عليه ; فالتقدير : شبه مشبه فيكون لهم نائبا عن الفاعل . وضمير ( لهم ) على هذا الوجه عائد إلى الذين قالوا إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم وهم يهود زمانه ، أي وقعت لهم المشابهة ، واللام على هذا بمعنى عند كما تقول : حصل لي ظن بكذا . والاستدراك بين على هذا الاحتمال .
ويحتمل أن يكون المعنى ولكن شبه لليهود الأولين والآخرين خبر صلب المسيح ، أي اشتبه عليهم الكذب بالصدق ، فيكون من باب قول العرب : خيل إليك ، واختلط على فلان . وليس ثمة شبيه بعيسى ولكن الكذب في خبره شبيه بالصدق ، واللام على هذا لام الأجل : أي لبس الخبر كذبه بالصدق لأجلهم ، أي لتضليلهم ، أي أن كبراءهم اختلقوه لهم ليبردوا غليلهم من الحنق على عيسى إذ جاء بإبطال ضلالاتهم . أو تكون اللام بمعنى ( على ) للاستعلاء المجازي ، كقوله تعالى ( وإن أسأتم فلها ) . ونكتة العدول عن حرف على تضمين فعل شبه معنى صنع ، أي صنع الأحبار هذا الخبر لأجل إدخال الشبهة على عامتهم .
وفي الأخبار أن يهوذا الاسخريوطي أحد أصحاب المسيح ، وكان قد ضل ونافق هو الذي وشى بعيسى عليه السلام وهو الذي ألقى الله عليه شبه عيسى ، وأنه الذي صلب ، وهذا أصله في إنجيل برنابي أحد تلاميذ الحواريين . وهذا يلائم الاحتمال الأول .
ويقال : إن بيلاطس ، والي فلسطين ، سئل في رومة عن عيسى وصلبه فأجاب بأنه لا علم له بشيء من هذه القضية ، فتأيد بذلك اضطراب [ ص: 22 ] الناس في وقوع قتله وصلبه ، ولم يقع وإنما اختلق قضية قتل اليهود خبره ، وهذا يلائم الاحتمال الثاني .
والذي يجب اعتقاده بنص القرآن : أن المسيح لم يقتل ، ولا صلب ، وأن الله رفعه إليه ونجاه من طالبيه ، وأما ما عدا ذلك فالأمر فيه محتمل . وقد تقدم الكلام في رفعه في قوله تعالى إني متوفيك ورافعك إلي في سورة آل عمران .
وقوله وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه يدل على وقوع خلاف في شأن قتل المسيح . والخلاف فيه موجود بين المسيحيين : فجمهورهم يقولون : قتلته اليهود ، وبعضهم يقول : لم يقتله اليهود ، ولكن قتلوا يهوذا الاسخريوطي الذي شبه لهم بالمسيح ، وهذا الاعتقاد مسطور في إنجيل برنابي الذي تعتبره الكنيسية اليوم كتابا محرفا فالمعنى أن معظم النصارى المختلفين في شأنه غير مؤمنين بصلبه . بل يخالج أنفسهم الشك ، ويتظاهرون باليقين ، وما هو باليقين ، فما لهم به من علم قاطع إلا اتباع الظن . فالمراد بالظن هنا : معنى الشك ، وقد أطلق الظن على هذا في مواضع كثيرة من كلام العرب ، وفي القرآن ( إن بعض الظن إثم ) ، وفي الحديث الصحيح . فالاستثناء في قوله إلا اتباع الظن منقطع ، كقول إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث النابغة :
حلفت يمينا غير ذي مثـنـوية ولا علم إلا حسن ظن بصاحب