استئناف واقع موقع تحقيق جملة ( له ما في السماوات وما في الأرض ) أو موقع الاستدلال على ما تضمنته جملة ( سبحانه أن يكون له ولد ) .
والاستنكاف : التكبر والامتناع بأنفة ، فهو أشد من الاستكبار . ونفي استنكاف المسيح : إما إخبار عن عيسى بأنه عبد الله ، وإما احتجاج على اعتراف النصارى بما يوجد في أناجيلهم .
قال الله تعالى حكاية عنه قال إني عبد الله آتاني الكتاب إلخ . وفي نصوص الإنجيل كثير مما يدل على أن المسيح عبد الله وأن الله إلهه وربه ، كما في مجادلته مع إبليس ، فقد قال له المسيح للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد .
وعدل عن طريق الإضافة في قوله ( عبدا لله ) فأظهر الحرف الذي تقدر الإضافة عليه : لأن التنكير هنا أظهر في العبودية ، أي عبدا من جملة العبيد ، ولو قال : عبد الله لأوهمت الإضافة أنه العبد الخصيص ، أو أن ذلك علم له . [ ص: 60 ] وأما ما حكى الله عن عيسى عليه السلام في قوله قال إني عبد الله آتاني الكتاب فلأنه لم يكن في مقام خطاب من ادعوا له الإلهية .
وعطف الملائكة على المسيح مع أنه لم يتقدم ذكر لمزاعم المشركين بأن الملائكة بنات الله حتى يتعرض لرد ذلك ، إدماج لقصد استقصاء كل من ادعيت له بنوة الله ، ليشمله الخبر بنفي استنكافه عن أن يكون عبدا لله ، إذ قد تقدم قبله قوله ( سبحانه أن يكون له ولد ) ، وقد قالت العرب : إن الملائكة بنات الله من نساء الجن ، ولأنه قد تقدم أيضا قوله له ما في السماوات وما في الأرض ، ومن أفضل ما في السماوات الملائكة ، فذكروا هنا للدلالة على اعترافهم بالعبودية . وإن جعلت قوله ( لن يستنكف المسيح ) استدلالا على ما تضمنه قوله ( سبحانه أن يكون له ولد ) كان عطف ( ولا الملائكة المقربون ) محتملا للتتميم كقوله ( الرحمن الرحيم ) فلا دلالة فيه على تفضيل الملائكة على المسيح ، ولا على العكس ، ومحتملا للترقي إلى ما هو الأولى بعكس الحكم في أوهام المخاطبين ، وإلى هذا الأخير مال صاحب الكشاف ومثله بقوله تعالى ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم وجعل الآية دليلا على أن الملائكة أفضل من المسيح ، وهو قول المعتزلة بتفضيل الملائكة على الأنبياء ، وزعم أن علم المعاني لا يقتضي غير ذلك ، وهو تضييق لواسع ، فإن الكلام محتمل لوجوه ، كما علمت ، فلا ينهض به الاستدلال .
واعلم أن مطلقا هو قول جمهور تفضيل الأنبياء على الملائكة أهل السنة ، وتفضيل الملائكة عليهم قول جمهور المعتزلة والباقلاني والحليمي من أهل السنة ، وقال قوم بالتفصيل في التفضيل ، ونسب إلى بعض الماتريدية ، ولم يضبط ذلك التفصيل ، والمسألة اجتهادية ، ولا طائل وراء الخوض فيها ، وقد نهى النبيء - صلى الله عليه وسلم - عن الخوض في تفاضل الأنبياء ، فما ظنك بالخوض في التفاضل بين الأنبياء وبين مخلوقات عالم آخر لا صلة لنا به .
[ ص: 61 ] و ( المقربون ) ، يحتمل أن يكون وصفا كاشفا ، وأن يكون مقيدا ، فيراد بهم الملقبون بالكروبيين وهم : سادة الملائكة جبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل . ووصفهم بالكروبيين وصف قديم وقع في بيت نسب إلى . وقد قالوا : إنه وصف مشتق من ( كرب ) مرادف ( قرب ) ، وزيد فيه صيغتا مبالغة ، وهي زنة فعول وياء النسب . والذي أظن أن هذا اللفظ نقل إلى العربية من العبرانية : لوقوع هذا اللفظ في التوراة في سفر اللاويين وفي سفر الخروج ، وأنه في العبرانية بمعنى القرب ، فلذلك عدل عنه القرآن وجاء بمرادفه الفصيح فقال ( المقربون ) ، وعليه فمن دونهم من الملائكة يثبت لهم عدم الاستنكاف عن العبودية لله بدلالة الأحرى . أمية بن أبي الصلت
وقوله ( ومن يستنكف عن عبادته ) الآية تخلص إلى تهديد المشركين كما أنبأ عنه قوله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فنعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا .
وضمير الجمع في قوله ( فسيحشرهم ) عائد إلى غير مذكور في الكلام ، بل إلى معلوم من المقام ، أي فسيحشر الناس إليه جميعا كما دل عليه التفصيل المفرع عليه وهو قوله ( فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) الخ . وضمير ( ولا يجدون ) عائد إلى الذين استنكفوا واستكبروا ، أي لا يجدون وليا حين يحشر الله الناس جميعا ، ويجوز أن يعود إلى الذين استنكفوا واستكبروا ويكون ( جميعا ) ، بمعنى مجموعين إلى غيرهم ، منصوبا ، فإن لفظ جميع له استعمالات جمة : منها أن يكون وصفا بمعنى المجتمع ، وفي كلام عمر للعباس وعلي : " ثم جئتماني وأمركما جميع " أي متفق مجموع ، فيكون منصوبا على الحال وليس تأكيدا . وذكر فريق المؤمنين في التفصيل يدل على أحد التقديرين .
والتوفية أصلها إعطاء الشيء وافيا ، أي زائدا على المقدار المطلوب ، ولما كان تحقق المساواة يخفى لقلة الموازين عندهم ، ولاعتمادهم على الكيل ، جعلوا تحقق المساواة بمقدار فيه فضل على المقدار المساوي ، أطلقت التوفية على إعطاء المعادل ، وتقابل بالخسران وبالغبن ، قال تعالى حكاية عن شعيب [ ص: 62 ] أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين ولذلك قال هنا ويزيدهم من فضله ، وهذه التوفية والزيادة يرجعان إلى تقدير يعلمه الله تعالى .
وقوله ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا تأسيس لهم إذ قد عرف عند العرب وغيرهم ، من أمم ذلك العصر ، الاعتماد عند الضيق على الأولياء والنصراء ليكفوا عنهم المصائب بالقتال أو الفداء ، قال النابغة :
يأملن رحلة نصر وابن سيار
ولذلك كثر في القرآن نفي الولي ، والنصير ، والفداء فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين .