ناسب ذكر ميثاق بني إسرائيل عقب ذكر ميثاق المسلمين من قوله : وميثاقه الذي واثقكم به تحذيرا من أن يكون ميثاقنا كميثاقهم . ومحل الموعظة هو قوله : فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل . وهكذا شأن القرآن في التفنن ومجيء الإرشاد في قالب القصص ، والتنقل من أسلوب إلى أسلوب .
وتأكيد الخبر الفعلي بقد وباللام للاهتمام به ، كما يجيء التأكيد بإن للاهتمام وليس ثم متردد ولا منزل منزلته .
وذكر مواثيق بني إسرائيل تقدم في سورة البقرة .
والبعث أصله التوجيه والإرسال ، ويطلق مجازا على الإقامة والإنهاض [ ص: 140 ] كقوله : من بعثنا من مرقدنا وقوله : فهذا يوم البعث . ثم شاع هذا المجاز حتى بني عليه مجاز آخر بإطلاقه على الإقامة المجازية إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ، ثم أطلق على إثارة الأشياء وإنشاء الخواطر في النفس . قال متمم بن نويرة :
فقلت لهم إن الأسى يبعث الأسى
أي أن الحزن يثير حزنا آخر . وهو هنا يحتمل المعنى الأول والمعنى الثالث .والعدول عن طريق الغيبة من قوله : ولقد أخذ الله إلى طريق التكلم في قوله : " وبعثنا " التفات .
والنقيب فعيل بمعنى فاعل : إما من نقب إذا حفر مجازا ، أو من نقب إذا بعث فنقبوا في البلاد ، وعلى الأخير يكون صوغ فعيل منه على خلاف القياس ، وهو وارد كما صيغ سميع من أسمع في قول عمرو بن معدي كرب :
أمن ريحانة الداعي السميع
أي المسمع .ووصفه تعالى بالحكيم بمعنى المحكم للأمور . فالنقيب الموكول إليه تدبير القوم ، لأن ذلك يجعله باحثا عن أحوالهم; فيطلق على الرئيس وعلى قائد الجيش وعلى الرائد ، ومنه ما في حديث بيعة العقبة أن نقباء الأنصار يومئذ كانوا اثني عشر رجلا .
والمراد بنقباء بني إسرائيل هنا يجوز أن يكونوا رؤساء جيوش ، ويجوز أن يكونوا روادا وجواسيس ، وكلاهما واقع في حوادث بني إسرائيل .
فأما الأول فيناسب أن يكون البعث معه بمعنى الإقامة ، وقد أقام موسى - عليه السلام - من بني إسرائيل اثني عشر رئيسا على جيش بني إسرائيل على عدد الأسباط المجندين ، فجعل لكل سبط نقيبا ، وجعل لسبط يوسف نقيبين ، [ ص: 141 ] ولم يجعل لسبط لاوي نقيبا ، لأن اللاويين كانوا غير معدودين في الجيش إذ هم حفظة الشريعة ، فقد جاء في أول سفر العدد : كلم الله موسى : أحصوا كل جماعة إسرائيل بعشائرهم بعدد الأسماء من ابن عشرين فصاعدا كل خارج للحرب في إسرائيل حسب أجنادهم ، تحسبهم أنت وهارون ، ويكون معكما رجل لكل سبط رؤوس ألوف إسرائيل وكلم الرب موسى قائلا : أما سبط لاوي فلا تعده بل وكل اللاويين على مسكن الشهادة وعلى جميع أمتعته . وكان ذلك في الشهر الثاني من السنة الثانية من خروجهم من مصر في برية سينا .
وأما الثاني فيناسب أن يكون البعث فيه بمعناه الأصلي ، فقد بعث موسى اثني عشر رجلا من أسباط إسرائيل لاختبار أحوال الأمم التي حولهم في أرض كنعان ، وهم غير الاثني عشر نقيبا الذين جعلهم رؤساء على قبائلهم . ومن هؤلاء يوشع بن نون من سبط أفرايم ، وكالب بن يفنة من سبط يهوذا ، وهما الوارد ذكرهما في قوله - تعالى - : قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب ، كما سيأتي في هذه السورة . وقد ذكرت أسماؤهم في الفصل الثالث عشر من سفر العدد . والظاهر أن المراد هنا النقباء الذين أقيموا لجند إسرائيل .
والمعية في قوله : إني معكم معية مجازية ، تمثيل للعناية والحفظ والنصر ، قال - تعالى - : إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم وقال إنني معكما أسمع وأرى وقال معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير . والظاهر أن هذا القول وقع وعدا بالجزاء على الوفاء بالميثاق .
وجملة لئن أقمتم الصلاة الآية . استئناف محض ليس منها شيء يتعلق ببعض ألفاظ الجملة التي قبلها وإنما جمعهما العامل ، وهو فعل القول ، فكلتاهما مقول ، ولذلك يحسن الوقف على قوله : إني معكم ، ثم يستأنف قوله : لئن أقمتم الصلاة إلى آخره . ولام لئن أقمتم موطئة للقسم ، ولام لأكفرن لام [ ص: 142 ] جواب القسم ، ولعل هذا بعض ما تضمنه الميثاق ، كما أن قوله : لأكفرن عنكم سيئاتكم بعض ما شمله قوله : إني معكم .
والمراد بالزكاة ما كان مفروضا على بني إسرائيل : من إعطائهم عشر محصولات ثمارهم وزرعهم ، مما جاء في الفصل الثامن عشر من سفر العدد ، والفصل الرابع عشر والفصل التاسع عشر من سفر التثنية . وقد مضى القول فيه عند قوله : تعالى : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين في سورة البقرة .
والتعزير : النصر . يقال : عزره مخففا ، وعزره مشددا ، وهو مبالغة في عزره عزرا إذا نصره ، وأصله المنع ، لأن الناصر يمنع المعتدي على منصوره .
ومعنى وأقرضتم الله قرضا حسنا الصدقات غير الواجبة .
وتكفير السيئات : مغفرة ما فرط منهم من التعاصي للرسول فجعل الطاعة والتوبة مكفرتين عن المعاصي .
وقوله : فقد ضل سواء السبيل أي فقد حاد عن الطريق المستقيم ، وذلك لا عذر للسائر فيه حين يضله ، لأن الطريق السوي لا يحوج السائر فيه إلى الروغان في ثنيات قد تختلط عليه وتفضي به إلى التيه في الضلال .