هذا من ضروب عدم الوفاء بميثاق الله تعالى .
كان النصارى ادعاؤهم إلهية عيسى عليه السلام ، فإبطال زعمهم ذلك هو أهم أحوال إخراجهم من الظلمات إلى النور وهديهم إلى الصراط المستقيم ، فاستأنف هذه الجملة أعظم ضلال لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم استئناف البيان . وتعين ذكر الموصول هنا لأن المقصود بيان ما في هذه [ ص: 152 ] المقالة من الكفر لا بيان ما عليه النصارى من الضلال ، لأن ضلالهم حاصل لا محالة إذا كانت هذه المقالة كفرا .
وحكي قولهم بما تؤديه في اللغة العربية جملة إن الله هو المسيح ابن مريم ، وهو تركيب دقيق المعنى لم يعطه المفسرون حقه من بيان انتزاع المعنى المراد به ، من تركيبه ، من الدلالة على اتحاد مسمى هذين الاسمين بطريق تعريف كل من المسند إليه والمسند بالعلمية بقرينة السياق الدالة على أن الكلام ليس مقصودا للإخبار بأحداث لذوات ، المسمى في الاصطلاح : حمل اشتقاق بل هو حمل مواطأة ، وهو ما يسمى في المنطق : حمل ( هو هو ) ، وذلك حين يكون كل من المسند إليه والمسند معلوما للمخاطب ويراد بيان أنها شيء واحد ، كقولك حين تقول : قال زياد ، فيقول سامعك : من هو زياد ، فتقول : زياد هو النابغة ، ومثله قولك : ميمون هو الأعشى ، وابن أبي السمط هو مروان بن أبي حفصة ، وأمثال ذلك . فمجرد تعريف جزأي الإسناد كاف في إفادة الاتحاد ، وإقحام ضمير الفصل بين المسند إليه والمسند في مثل هذه الأمثلة استعمال معروف لا يكاد يتخلف قصدا لتأكيد الاتحاد ، فليس في مثل هذا التركيب إفادة قصر أحد الجزأين على الآخر ، وليس ضمير الفصل فيه بمفيد شيئا سوى التأكيد . وكذلك وجود حرف ( إن ) لزيادة التأكيد ، ونظيره قول : والمرعث هو بشار ، رويشد بن كثير الطائي من شعراء الحماسة :
وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا قولا يبرئكم إني أنا الـمـوت
فلا يأتي في هذا ما لعلماء المعاني من الخلاف في أن ضمير الفصل هل يفيد قصر المسند إليه ، وهو الأصح ; أو العكس ، وهو قليل ؛ لأن مقام اتحاد المسميين يسوي الاحتمالين ويصرف عن إرادة القصر . وقد أشار إلى هذا المعنى إشارة خفية قول صاحب الكشاف عقب قوله : الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم معناه بت القول على أن حقيقة الله هو المسيح لا غير . ومحل الشاهد من كلام الكشاف ما عدا قوله : ( لا غير ) ، لأن الظاهر أن ( لا غير ) يشير إلى استفادة معنى القصر من مثل هذا التركيب ، وهو بعيد . وقد يقال : إنه أراد أن معنى الانحصار لازم بمعنى الاتحاد وليس ناشئا عن صيغة قصر .[ ص: 153 ] ويفيد قولهم هذا أنهم جعلوا حقيقة الإله الحق المعلوم متحدة بحقيقة عيسى عليه السلام بمنزلة اتحاد الاسمين للمسمى الواحد ، ومرادهم امتزاج الحقيقة الإلهية في ذات عيسى . ولما كانت الحقيقة الإلهية معنونة عند جميع المتدينين باسم الجلالة جعل القائلون اسم الجلالة المسند إليه ، واسم عيسى المسند ليدلوا على أن الله اتحد بذات المسيح .
وحكاية القول عنهم ظاهرة في أن هذا قالوه صراحة عن اعتقاد ، إذ سرى لهم القول باتحاد اللاهوت بناسوت عيسى إلى حد أن اعتقدوا أن الله سبحانه قد اتحد بعيسى وامتزج وجود الله بوجود عيسى . وهذا مبالغة في اعتقاد الحلول . وللنصارى في تصوير هذا الحلول أو الاتحاد أصل ، وهو أن الله - تعالى - جوهر واحد ، هو مجموع ثلاثة أقانيم - جمع أقنوم بضم الهمزة وسكون القاف وهو كلمة رومية معناها : الأصل ، كما في القاموس - وهذه الثلاثة هي أقنوم الذات ، وأقنوم العلم ، وأقنوم الحياة ، وانقسموا في بيان اتحاد هذه الأقانيم بذات عيسى إلى ثلاثة مذاهب : مذهب الملكانية وهم الجاثلقية ( الكاثوليك ) ، ومذهب النسطورية ، ومذهب اليعقوبية . وتفصيله في كتاب المقاصد . وتقدم مفصلا عند تفسير قوله - تعالى - : فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة في سورة النساء . وهذا قول اليعاقبة من النصارى ، وهم أتباع يعقوب البرذعاني ، وكان راهبا بالقسطنطينية ، وقد حدثت مقالته هذه بعد مقالة الملكانية ، ويقال لليعاقبة : أصحاب الطبيعة الواحدة ، وعليها درج نصارى الحبشة كلهم . ولا شك أن نصارى نجران كانوا على هذه الطريقة .
ولقرب أصحابها الحبشة من بلاد العرب تصدى القرآن لبيان ردها هنا وفي الآية الآتية في هذه السورة . وقد بينا النصارى في اتحاد اللاهوت بالناسوت وفي اجتماع الأقانيم عند قوله - تعالى - : حقيقة معتقد وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه في سورة النساء .
وبين الله لرسوله الحجة عليهم بقوله : قل فمن يملك من الله شيئا الآية ، [ ص: 154 ] فالفاء عاطفة للاستفهام الإنكاري على قولهم : إن الله هو المسيح ، للدلالة على أن الإنكار ترتب على هذا القول الشنيع ، فهي للتعقيب الذكري . وهذا استعمال كثير في كلامهم ، فلا حاجة إلى ما قيل : إن الفاء عاطفة على محذوف دل عليه السياق ، أي ليس الأمر كما زعمتم ، ولا أنها جواب شرط مقدر ، أي إن كان ما تقولون فمن يملك من الله شيئا إلخ .
ومعنى يملك شيئا هنا يقدر على شيء ، فالمركب مستعمل في لازم معناه على طريقة الكناية ، وهذا اللازم متعدد وهو الملك ، فاستطاعة التحويل ، وهو استعمال كثير ومنه قوله - تعالى - : قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا الآية في سورة الفتح . وفي الحديث لعيينة بن حصن أفأملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة لأن الذي يملك يتصرف في مملوكه كيف شاء . قال رسول الله
فالتنكير في قوله : " شيئا " للتقليل والتحقير . ولما كان الاستفهام هنا بمعنى النفي كان نفي الشيء القليل مقتضيا نفي الكثير بطريق الأولى ، فالمعنى : فمن يقدر على شيء من الله ، أي من فعله وتصرفه أن يحوله عنه ، ونظيره وما أغني عنكم من الله من شيء . وسيأتي لمعنى " يملك " استعمال آخر عند قوله - تعالى - : قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا في هذه السورة ، وسيأتي قريب من هذا الاستعمال عند قوله - تعالى - : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا في هذه السورة .
وحرف الشرط من قوله : إن أراد مستعمل في مجرد التعليق من غير دلالة على الاستقبال ، لأن إهلاك أم المسيح قد وقع بلا خلاف ، ولأن إهلاك المسيح ، أي موته واقع عند المجادلين بهذا الكلام ، فينبغي إرخاء العنان لهم في ذلك لإقامة الحجة ، وهو أيضا واقع في قول عند جمع من علماء الإسلام الذين قالوا : إن الله أماته ورفعه دون أن يمكن اليهود منه ، كما تقدم عند قوله - تعالى - : وما قتلوه وما صلبوه وقوله : إني متوفيك ورافعك إلي . وعليه فليس في [ ص: 155 ] تعليق هذا الشرط إشعار بالاستقبال . والمضارع المقترن بـ " أن " وهو أن يهلك مستعمل في مجرد المصدرية . والمراد بـ من في الأرض حينئذ من كان في زمن المسيح وأمه من أهل الأرض فقد هلكوا كلهم بالضرورة . والتقدير : من يملك أن يصد الله إذ أراد إهلاك المسيح وأمه ومن في الأرض يومئذ .
ولك أن تلتزم كون الشرط للاستقبال باعتبار جعل ومن في الأرض جميعا بمعنى نوع الإنسان ، فتعليق الشرط باعتبار مجموع مفاعيل ( يهلك ) على طريقة التغليب; فإن بعضها وقع هلكه وهو أم المسيح ، وبعضها لم يقع وسيقع وهو إهلاك من في الأرض جميعا ، أي إهلاك جميع النوع ، لأن ذلك أمر غير واقع ولكنه ممكن الوقوع .
والحاصل أن استعمال هذا الشرط من غرائب استعمال الشروط في العربية ، ومرجعه إلى استعمال صيغة الشرط في معنى حقيقي ومعنى مجازي تغليبا للمعنى الحقيقي ، لأن من في الأرض يعم الجميع وهو الأكثر . ولم يعطه المفسرون حقه من البيان . وقد هلكت مريم أم المسيح عليهما السلام في زمن غير مضبوط بعد رفع المسيح .
والتذييل بقوله : ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء فيه تعظيم شأن الله تعالى . ورد آخر عليهم بأن الله هو الذي خلق السماوات والأرض وملك ما فيها من قبل أن يظهر المسيح ، فالله هو الإله حقا ، وأنه يخلق ما يشاء ، فهو الذي خلق المسيح خلقا غير معتاد ، فكان موجب ضلال من نسب له الألوهية . وكذلك قوله : والله على كل شيء قدير .