كرر الله موعظتهم ودعوتهم بعد أن بين لهم فساد عقائدهم وغرور أنفسهم بيانا لا يدع للمنصف متمسكا بتلك الضلالات ، كما وعظهم ودعاهم آنفا بمثل هذا عقب بيان نقضهم المواثيق . فموقع هذه الآية تكرير لموقع قوله : يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب الآيات ، إلا أنه ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم هنا بوصف مجيئه على فترة من الرسل ليذكرهم بأن كتبهم مصرحة بمجيء رسول عقب رسلهم ، وليريهم أن مجيئه لم يكن بدعا من الرسل إذ كانوا يجيئون على فتر بينهم . وذكر الرسول هنالك بوصف تبيينه ما يخفونه من الكتاب لأن [ ص: 158 ] ما ذكر قبل الموعظة هنا قد دل على مساواة الرسل في البشرية ومساواة الأمم في الحاجة إلى الرسالة ، وما ذكر قبل الموعظة هنالك إنما كان إنباء بأسرار كتبهم وما يخفون علمه عن الناس لما فيه من مساويهم وسوء سمعتهم . وحذف مفعول " يبين " لظهور أن المراد بيان الشريعة . فالكلام خطاب لأهل الكتاب يتنزل منزلة تأكيد لجملة يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون فلذلك فصلت .
وقوله : على فترة من الرسل حال من ضمير يبين لكم فهو ظرف مستقر ، ويجوز أن يكون ظرفا لغوا متعلقا بـ " جاءكم " . ويجوز تعلقه بفعل " يبين " لأن البيان انقطع في مدة الفترة .
و " على " للاستعلاء المجازي بمعنى ( بعد ) لأن المستعلي يستقر بعد استقرار ما يستعلي هو فوقه ، فشبه استقراره بعده باستعلائه عليه ، فاستعير له الحرف الدال على الاستعلاء .
والفترة : انقطاع عمل ما .
وحرف ( من ) في قوله : من الرسل للابتداء ، أي فترة من الزمن ابتداؤها مدة وجود الرسل ، أي أيام إرسال الرسل .
والمجيء مستعار لأمر الرسول بتبليغ الدين ، فكما سمي الرسول رسولا سمي تبليغه مجيئا تشبيها بمجيء المرسل من أحد إلى آخر .
والمراد بالرسل رسل أهل الكتاب المتعاقبين من عهد موسى إلى المسيح ، أو أريد المسيح خاصة . والفترة بين البعثة وبين رفع المسيح ، كانت نحو خمسمائة وثمانين سنة . وأما غير أهل الكتاب فقد جاءتهم رسل مثل خالد بن سنان وحنظلة بن صفوان .
و أن تقولوا تعليل لقوله : قد جاءكم لبيان بعض الحكم من بعثة [ ص: 159 ] الرسول ، وهي قطع معذرة أهل الكتاب عند مؤاخذتهم في الآخرة ، أو تقريعهم في الدنيا على ما غيروا من شرائعهم ، لئلا يكون من معاذيرهم أنهم اعتادوا تعاقب الرسل لإرشادهم وتجديد الديانة ، فلعلهم أن يعتذروا بأنهم لما مضت عليهم فترة بدون إرسال رسول لم يتجه عليهم ملام فيما أهملوا من شرعهم وأنهم لو جاءهم رسول لاهتدوا . فالمعنى أن تقولوا : ما جاءنا رسول في الفترة بعد موسى أو بعد عيسى . وليس المراد أن يقولوا : ما جاءنا رسول إلينا أصلا ، فإنهم لا يدعون ذلك ، وكيف وقد جاءهم موسى وعيسى . فكان قوله : أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير تعليلا لمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم ، ومتعلقا بفعل ما جاءنا . ووجب تقدير لام التعليل قبل ( أن ) وهو تقدير يقتضيه المعنى . ومثل هذا التقدير كثير في حذف حرف الجر قبل ( أن ) حذفا مطردا ، والمقام يعين الحرف المحذوف; فالمحذوف هنا حرف اللام .
ويشكل معنى الآية بأن علة إرسال الرسول إليهم هي انتفاء أن يقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير لا إثباته كما هو واضح ، فلماذا لم يقل : أن لا تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير ، وقد جاء في القرآن نظائر لهذه الآية ، وفي شعر العرب كقول عمرو بن كلثوم :
فعجلنا القرى أن تشتمونا
أراد أن لا تشتمونا . فاختلف النحويون في تقدير ما به يتقوم المعنى في الآيات وغيرها : فذهب البصريون إلى تقدير اسم يناسب أن يكون مفعولا لأجله لفعل " جاءكم " وقدروه : ( كراهية أن تقولوا ) وعليه درج صاحب الكشاف ومتابعوه من جمهور المفسرين; وذهب الكوفيون إلى تقدير حرف نفي محذوف بعد ( أن ) والتقدير : أن لا تقولوا ، ودرج عليه بعض المفسرين مثل البغوي فيكون من إيجاز الحذف اعتمادا على قرينة السياق والمقام . وزعم ابن هشام في مغني اللبيب أنه تعسف ، وذكر أن بعض النحويين زعم أن من معاني ( أن ) أن تكون بمعنى ( لئلا ) .[ ص: 160 ] وعندي : أن الذي ألجأ النحويين والمفسرين لهذا التأويل هو البناء على أن ( أن ) تخلص المضارع للاستقبال فتقتضي أن قول أهل الكتاب : ما جاءنا من بشير ولا نذير غير حاصل في حال نزول الآية ، وأنه مقدر حصوله في المستقبل . ويظهر أن إفادة ( أن ) تخليص المضارع للمستقبل إفادة أكثرية وليست بمطردة ، وقد ذهب إلى ذلك أبو حيان وذكر أن ذهب إليه ، بل قد تفيد ( أن ) مجرد المصدرية كقوله تعالى أبا بكر الباقلاني وأن تصوموا خير لكم ، وقول امرئ القيس :
فإما تريني لا أغمض ساعة من الليل إلا أن أكب وأنعسا
وقوله : فقد جاءكم بشير ونذير الفاء فيه للفصيحة ، وقد ظهر حسن موقعها بما قررت به معنى التعليل ، أي لإن قلتم ذلك فقد بطل قولكم إذ قد جاءكم بشير ونذير . ونظير هذا قول عباس بن الأحنف :
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ثم القفول فقد جئنا خراسـانـا