جالت الآيات المتقدمة جولة في ذكر إنزال التوراة والإنجيل وآبت منها إلى المقصود وهو إنزال القرآن ; فكان كرد العجز على الصدر لقوله : يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ليبين أن القرآن جاء ناسخا لما قبله ، وأن مؤاخذة اليهود على ترك العمل بالتوراة والإنجيل مؤاخذة لهم بعملهم قبل مجيء الإسلام ، وليعلمهم أنهم لا يطمعون من محمد صلى الله عليه وسلم بأن يحكم بينهم بغير ما شرعه الله في الإسلام ، فوقع قوله : وأنزلنا إليك الكتاب بالحق لترتيب نزول الكتب السماوية ، وتمهيدا لقوله : فاحكم بينهم بما أنزل الله [ ص: 221 ] ووقع قوله : فاحكم بينهم بما أنزل الله موقع التخلص المقصود ، فجاءت الآيات كلها منتظمة متناسقة على أبدع وجه .
والكتاب الأول القرآن ، فتعريفه للعهد . والكتاب الثاني جنس يشمل الكتب المتقدمة ، فتعريفه للجنس . والمصدق تقدم بيانه .
والمهيمن الأظهر أن هاءه أصلية وأن فعله بوزن فيعل كسيطر ، ولكن لم يسمع له فعل مجرد فلم يسمع همن . قال أهل اللغة : لا نظير لهذا الفعل إلا هينم إذا دعا أو قرأ ، وبيقر إذا خرج من الحجاز إلى الشام ، وسيطر إذا قهر . وليس له نظير في وزن مفيعل إلا اسم فاعل هذه الأفعال ، وزادوا : مبيطر اسم طبيب الدواب ، ولم يسمع بيطر ولكن بطر ، ومجيمر اسم جبل ، ذكره امرؤ القيس في قوله : :
كأن ذرى رأس المجيمر غدوة من السيل والغثاء فلكة مغزل
وفسر المهيمن بالعالي والرقيب ، ومن أسمائه تعالى المهيمن .وقيل : المهيمن مشتق من أمن ، وأصله اسم فاعل من آمنه عليه بمعنى استحفظه به ، فهو مجاز في لازم المعنى وهو الرقابة ، فأصله مؤأمن ، فكأنهم راموا أن يفرقوا بينه وبين اسم الفاعل من آمن بمعنى اعتقد وبمعنى آمنه ، لأن هذا المعنى المجازي صار حقيقة مستقلة فقلبوا الهمزة الثانية ياء وقلبوا الهمزة الأولى هاء ، كما قالوا في أراق هراق ، فقالوا : هيمن .
وقد أشارت الآية إلى حالتي القرآن بالنسبة لما قبله من الكتب ، فهو مؤيد لبعض ما في الشرائع مقرر له من كل حكم كانت مصلحته كلية لم تختلف مصلحته باختلاف الأمم والأزمان ، وهو بهذا الوصف مصدق ، أي محقق ومقرر ، وهو أيضا مبطل لبعض ما في الشرائع السالفة وناسخ لأحكام كثيرة من كل ما كانت مصالحه جزئية مؤقتة مراعى فيها أحوال أقوام خاصة .
[ ص: 222 ] وقوله : فاحكم بينهم بما أنزل الله أي بما أنزل الله إليك في القرآن ، أو بما أوحاه إليك ، أو احكم بينهم بما أنزل الله في التوراة والإنجيل ما لم ينسخه الله بحكم جديد ، لأن شرع من قبلنا شرع لنا إذا أثبت الله شرعه لمن قبلنا . فحكم النبيء على اليهوديين بالرجم حكم بما في التوراة ، فيحتمل أنه كان مؤيدا بالقرآن إذا كان حينئذ قد جاء قوله : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما . ويحتمل أنه لم يؤيد ولكن الله أوحى إلى رسوله أن حكم التوراة في مثلهما الرجم ، فحكم به ، وأطلع اليهود على كتمانهم هذا الحكم . وقد اتصل معنى قوله : فاحكم بينهم بما أنزل الله بمعنى قوله : وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط ; فليس في هذه الآية ما يقتضي نسخ الحكم المفاد من قوله : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ، ولكنه بيان سماه بعض السلف باسم النسخ قبل أن تنضبط حدود الأسماء الاصطلاحية .
والنهي عن اتباع أهوائهم ، أي أهواء اليهود حين حكموه طامعين أن يحكم عليهم بما تقرر من عوائدهم ، مقصود منه النهي عن الحكم بغير حكم الله إذا تحاكموا إليه ، إذ لا يجوز الحكم بغيره ولو كان شريعة سابقة ، لأن نزول القرآن مهيمنا أبطل ما خالفه ، ونزوله مصدقا أيد ما وافقه وزكى ما لم يخالفه .
والرسول لا يجوز عليه أن يحكم بغير شرع الله ، فالمقصود من هذا النهي : إما إعلان ذلك ليعلمه الناس وييأس الطامعون أن يحكم لهم بما يشتهون ، فخطاب النبيء صلى الله عليه وسلم بقوله : ولا تتبع أهواءهم مراد به أن يتقرر ذلك في علم الناس ، مثل قوله تعالى لئن أشركت ليحبطن عملك . وإما تبيين الله لرسوله وجه ترجيح أحد الدليلين عند تعارض الأدلة بأن لا تكون أهواء الخصوم طرقا للترجيح ، وذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام لشدة رغبته في هدى الناس قد يتوقف في فصل هذا التحكيم ، لأنهم وعدوا أنه إن حكم عليهم بما تقرر من عوائدهم يؤمنون به . فقد يقال : إنهم لما تراضوا عليه لم لا يحملون عليه مع ظهور فائدة ذلك وهو دخولهم في الإسلام ، فبين الله له أن أمور الشريعة لا تهاون بها ، وأن مصلحة احترام الشريعة بين أهلها أرجح من مصلحة [ ص: 223 ] دخول فريق في الإسلام ، لأن الإسلام لا يليق به أن يكون ضعيفا لمريديه ، قال تعالى يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين .
وقوله : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا كالتعليل للنهي ، أي إذا كانت أهواؤهم في متابعة شريعتهم أو عوائدهم فدعهم وما اعتادوه وتمسكوا بشرعكم .
والشرعة والشريعة : الماء الكثير من نهر أو واد . يقال : شريعة الفرات . وسميت الديانة شريعة على التشبيه ، لأن فيها شفاء النفوس وطهارتها . والعرب تشبه بالماء وأحواله كثيرا ، كما قدمناه في قوله تعالى لعلمه الذين يستنبطونه منهم في سورة النساء .
والمنهاج : الطريق الواسع ، وهو هنا تخييل أريد به طريق القوم إلى الماء ، كقول قيس بن الخطيم :
وأتبعت دلوي في السماح رشاءها
فذكر الرشاء مجرد تخييل . ويصح أن يجعل له رديف في المشبه بأن تشبه العوائد المنتزعة من الشريعة أو دلائل التفريع عن الشريعة أو طرق فهمها ، بالمنهاج الموصل إلى الماء . فمنهاج المسلمين لا يخالف الاتصال بالإسلام ، فهو كمنهاج المهتدين إلى الماء ، ومنهاج غيرهم منحرف عن دينهم ، كما كانت اليهود قد جعلت عوائد مخالفة لشريعتهم ، فذلك كالمنهاج الموصل إلى غير المورود . وفي هذا الكلام إبهام أريد به تنبيه الفريقين إلى الفرق بين حاليهما وبالتأمل يظهر لهم .ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة . الجعل : التقدير ، وإلا فإن الله أمر الناس أن يكونوا أمة واحدة على دين الإسلام ، ولكنه رتب نواميس وجبلات ، [ ص: 224 ] وسبب اهتداء فريق وضلال فريق ، وعلم ذلك بحسب ما خلق فيهم من الاستعداد المعبر عنه بالتوفيق أو الخذلان ، والميل أو الانصراف ، والعزم أو المكابرة . ولا عذر لأحد في ذلك ، لأن علم الله غير معروف عندنا وإنما ينكشف لنا بما يظهر في الحادثات . وقوله :
والأمة : الجماعة العظيمة الذين دينهم ومعتقدهم واحد ، هذا بحسب اصطلاح الشريعة . وأصل الأمة في كلام العرب : القوم الكثيرون الذين يرجعون إلى نسب واحد ويتكلمون بلسان واحد ، أي لو شاء لخلقكم على تقدير واحد ، كما خلق أنواع الحيوان غير قابلة للزيادة ولا للتطور من أنفسها .
ومعنى ليبلوكم في ما آتاكم هو ما أشرنا إليه من خلق الاستعداد ونحوه . والبلاء : الخبرة . والمراد هنا ليظهر أثر ذلك للناس ، والمراد لازم المعنى على طريق الكناية ، كقول إياس بن قبيصة الطائي :
وأقبلت والخطي يخطر بيننـا لأعلم من جبانها من شجاعها
وفرع على " ليبلوكم " قوله : فاستبقوا الخيرات لأن بذلك الاستباق يكون ظهور أثر التوفيق أوضح وأجلى .
والاستباق : التسابق ، وهو هنا مجاز في المنافسة ، لأن الفاعل للخير لا يمنع [ ص: 225 ] غيره من أن يفعل مثل فعله أو أكثر ، فشابه التسابق . ولتضمين فعل " استبقوا " بمعنى خذوا ، أو ابتدروا ، عدي الفعل إلى الخيرات بنفسه وحقه أن يعدى بـ " إلى " كقوله : سابقوا إلى مغفرة من ربكم .
وقوله : فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون أي من الاختلاف في قبول الدين .