عطف جملة ابتدائية على الجمل الابتدائية التي قبلها من قوله : الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون .
والضمير المجرور بـ ( من ) التبعيضية عائد إلى المشركين الذين الحديث معهم وعنهم ابتداء من قوله : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ، أي ومن المشركين من يستمع إليك . وقد انتقل الكلام إلى أحوال خاصة عقلائهم الذين يربئون بأنفسهم عن أن يقابلوا دعوة [ ص: 179 ] الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمثل ما يقابله به سفهاؤهم من الإعراض التام ، وقولهم : قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب . ولكن هؤلاء العقلاء يتظاهرون بالحلم والأناة والإنصاف ويخيلون للدهماء أنهم قادرون على مجادلة الرسول عليه الصلاة والسلام وإبطال حججه ثم ينهون الناس عن الإيمان . روى الواحدي عن أنه سمى من هؤلاء أبا ابن عباس سفيان بن حرب ، وعتبة وشيبة ابني ربيعة ، وأبا جهل ، والوليد بن المغيرة ، والنضر بن الحارث ، وأمية وأبيا ابني خلف ، اجتمعوا إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - يستمعون القرآن فلما سمعوه قالوا للنضر : ما يقول محمد فقال : والذي جعلها بيته ( يعني الكعبة ) ما أدري ما يقول إلا أني أرى تحرك شفتيه فما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية . يعني أنه قال ذلك مكابرة منه للحق وحسدا للرسول عليه الصلاة والسلام . وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولين . وكان يحدث قريشا عن أقاصيص العجم ، مثل قصة ( رستم ) و ( إسفنديار ) فيستملحون حديثه ، وكان صاحب أسفار إلى بلاد الفرس ، وكان النضر شديد البغضاء للرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي أهدر الرسول عليه الصلاة والسلام دمه فقتل يوم فتح مكة . وروي أن أبا سفيان قال لهم : إني لأراه حقا . فقال له أبو جهل : كلا . فوصف الله حالهم بهذه الآية . وقد نفع الله بكلمته هذه ، فأسلم هو دونهم ليلة فتح أبا سفيان بن حرب مكة وثبتت له فضيلة الصحبة وصهر النبيء - صلى الله عليه وسلم - ولزوجه هند بنت عتبة بن ربيعة .
و ( الأكنة ) جمع كنان - بكسر الكاف - و ( أفعلة ) يتعين في ( فعال ) المكسور الفاء إذا كان عينه ولامه مثلين . والكنان : الغطاء ، لأنه يكن الشيء ، أي يستره . وهي هنا تخييل لأنه شبهت قلوبهم في عدم خلوص الحق إليها بأشياء محجوبة عن شيء . وأثبتت لها الأكنة تخييلا ، وليس في قلب أحدهم شيء يشبه الكنان .
وأسند جعل تلك الحالة في قلوبهم إلى الله تعالى لأنه خلقهم على هذه الخصلة الذميمة والتعقل المنحرف ، فهم لهم عقول وإدراك لأنهم كسائر البشر ، ولكن أهواءهم تخير لهم المنع من اتباع الحق ، فلذلك كانوا مخاطبين بالإيمان مع أن الله يعلم أنهم [ ص: 180 ] لا يؤمنون إذ كانوا على تلك الصفة ، على أن خطاب التكليف عام لا تعيين فيه لأناس ولا استثناء فيه لأناس . فالجعل بمعنى الخلق وليس للتحويل من حال إلى حال . وقد مات المسمون كلهم على الشرك عدا أبا سفيان فإنه شهد حينئذ بأن ما سمعه حق ، فدلت شهادته على سلامة قلبه من الكنان .
والضمير المنصوب في أن يفقهوه عائد إلى القرآن المفهوم من قوله يستمع إليك . وحذف حرف الجر ، والتقدير : من أن يفقهوه ، ويتعلق بـ ( أكنة ) لما فيه من معنى المنع ، أي أكنة تمنع من أن يفهموا القرآن .
والوقر بفتح الواو : الصمم الشديد وفعله كوعد ووجد يستعمل قاصرا ، يقال : وقرت أذنه ، ومتعديا يقال : وقر الله أذنه فوقرت . والوقر مصدر غير قياسي لـ ( وقرت ) أذنه ، لأن قياس مصدره تحريك القاف ، وهو قياسي لـ ( وقر ) المتعدي ، وهو مستعار لعدم فهم المسموعات . جعل عدم الفهم بمنزلة الصمم ولم يذكر للوقر متعلق يدل على الممنوع بوقر آذانهم لظهور أنه من أن يسمعوه ، لأن الوقر مؤذن بذلك ، ولأن المراد السمع المجازي وهو العلم بما تضمنه المسموع .
وقوله : على قلوبهم ، وقوله : في آذانهم يتعلقان بـ ( جعلنا ) . وقدم كل منهما على مفعول ( جعلنا ) للتنبيه على تعلقه به من أول الأمر .
فإن قلت : هل تكون هاته الآية حجة للذين قالوا من علمائنا : إن ، أي أعجز الله المشركين عن معارضته بأن صرفهم عن محاولة المعارضة لتقوم الحجة عليهم ، فتكون الصرفة من جملة الأكنة التي جعل الله على قلوبهم . قلت : لم يحتج بهذه الآية أصحاب تلك المقالة لأنك قد علمت أن الأكنة تخييل وأن الوقر استعارة وأن قول إعجاز القرآن بالصرفة النضر ما أدري ما أقول ، بهتان ومكابرة ، ولذلك قال الله تعالى : وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها .
وكلمة ( كل ) هنا مستعملة في الكثرة مجازا لتعذر الحقيقة سواء كان التعذر عقلا - كما في هذه الآية ، وقوله تعالى : فلا تميلوا كل الميل ، وذلك أن الآيات تنحصر أفرادها [ ص: 181 ] لأنها أفراد مقدرة تظهر عند تكوينها إذ هي من جنس عام - أم كان التعذر عادة كقول النابغة :
بها كل ذيال وخنساء ترعوي إلى كل رجاف من الرمل فارد
فإن العادة تحيل اجتماع جميع بقر الوحش في هذا الموضع .فيتعذر أن يرى القوم كل أفراد ما يصح أن يكون آية ، فلذلك كان المراد بـ ( كل ) معنى الكثرة الكثيرة ، كما تقدم في قوله تعالى ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية في سورة البقرة .
و ( حتى ) حرف موضوع لإفادة الغاية ، أي أن ما بعدها غاية لما قبلها . وأصل ( حتى ) أن يكون حرف جر مثل ( إلى ) فيقع بعده اسم مفرد مدلوله غاية لما قبل ( حتى ) . وقد يعدل عن ذلك ويقع بعد ( حتى ) جملة ، فتكون ( حتى ) ابتدائية ، أي تؤذن بابتداء كلام مضمونه غاية لكلام قبل ( حتى ) . ولذلك قال في الكافية : إنها تفيد السببية ، فليس المعنى أن استماعهم يمتد إلى وقت مجيئهم ولا أن جعل الأكنة على قلوبهم والوقر في آذانهم يمتد إلى وقت مجيئهم ، بل المعنى أن يتسبب على استماعهم بدون فهم . وجعل الوقر على آذانهم والأكنة على قلوبهم أنهم إذا جاءوك جادلوك . ابن الحاجب
وسميت ( حتى ) ابتدائية لأن ما بعدها في حكم كلام مستأنف استئنافا ابتدائيا . ويأتي قريب من هذا عند قوله : قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة في هذه السورة ، وزيادة تحقيق لمعنى ( حتى ) الابتدائية عند قوله تعالى : فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا إلى قوله : حتى إذا جاءتهم رسلنا إلخ في سورة الأعراف .
و ( إذا ) شرطية ظرفية . و ( جاءوك ) شرطها ، وهو العامل فيها . وجملة ( يجادلونك ) حال مقدرة من ضمير ( جاءوك ) أي جاءوك مجادلين ، أي مقدرين المجادلة معك يظهرون لقومهم أنهم أكفاء لهذه المجادلة .
وجملة ( يقول ) جواب إذا ، وعدل عن الإضمار إلى الإظهار في قوله يقول الذين كفروا [ ص: 182 ] لزيادة التسجيل عليهم بالكفر ، وأنهم ما جاءوا طالبين الحق كما يدعون ولكنهم قد دخلوا بالكفر وخرجوا به فيقولون : إن هذا إلا أساطير الأولين ، فهم قد عدلوا عن الجدل إلى المباهتة والمكابرة .
والأساطير جمع أسطورة بضم الهمزة وسكون السين وهي القصة والخبر عن الماضين . والأظهر أن الأسطورة لفظ معرب عن الرومية : أصله ( إسطوريا ) بكسر الهمزة وهو القصة . ويدل لذلك اختلاف العرب فيه ، فقالوا : أسطورة وأسطيرة وأسطور وأسطير ، كلها بضم الهمزة وإسطارة وإسطار بكسر الهمزة . والاختلاف في حركات الكلمة الواحدة من جملة أمارات التعريب . ومن أقوالهم : أعجمي فالعب به ما شئت . وأحسن الألفاظ لها أسطورة لأنها تصادف صيغة تفيد معنى المفعول أي القصة المسطورة . وتفيد الشهرة في مدلول مادتها مثل الأعجوبة والأحدوثة والأكرومة . وقيل : الأساطير اسم جمع لا واحد له مثل أبابيل وعباديد وشماطيط . وكان العرب يطلقونه على ما يتسامر الناس به من القصص والأخبار على اختلاف أحوالها من صدق وكذب . وقد كانوا لا يميزون بين التواريخ والقصص والخرافات فجميع ذلك مرمي بالكذب والمبالغة . فقولهم إن هذا إلا أساطير الأولين . يحتمل أنهم أرادوا نسبة أخبار القرآن إلى الكذب على ما تعارفوه من اعتقادهم في الأساطير . ويحتمل أنهم أرادوا أن القرآن لا يخرج عن كونه مجموع قصص وأساطير ، يعنون أنه لا يستحق أن يكون من عند الله لأنهم لقصور أفهامهم أو لتجاهلهم يعرضون عن الاعتبار المقصود من تلك القصص ويأخذونها بمنزلة الخرافات التي يتسامر الناس بها لتقصير الوقت . وسيأتي في سورة الأنفال أن من قال ذلك النضر بن الحارث ، وأنه كان يمثل القرآن بأخبار ( رستم ) و ( إسفنديار ) .