حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ويرسل عليكم حفظة ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين .
[ ص: 278 ] ويرسل عطف على القاهر ، فيعتبر المسند إليه مقدما على الخبر الفعلي ، فيدل على التخصيص أيضا بقرينة المقام ، أي هو الذي يرسل عليكم حفظة دون غيره . والقصر هنا حقيقي ، فلا يستدعي رد اعتقاد مخالف . والمقصود الإعلام بهذا الخبر الحق ليحذر السامعون من ارتكاب المعاصي .
ومعنى ( على ) في قوله " عليكم " الاستعلاء المجازي ، أي إرسال قهر وإلزام ، كقوله بعثنا عليكم عبادا لنا ، لأن سياق الكلام خطاب للمشركين كما علمت ، ومثله قوله تعالى كلا بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين .
وعليكم متعلق بـ يرسل ، فعلم أن المراد بحفظ الحفظة الإحصاء والضبط من قولهم : حفظت عليه فعله كذا . وهو ضد نسي . ومنه قوله تعالى وعندنا كتاب حفيظ . وليس هو من حفظ الرعاية والتعهد مثل قوله تعالى حافظات للغيب بما حفظ الله .
. وورد في الحديث الصحيح فالحفظة ملائكة وظيفتهم إحصاء أعمال العباد من خير وشر الحديث . يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار
وقوله إذا جاء أحدكم الموت غاية لما دل عليه اسم الحفظة من معنى الإحصاء ، أي فينتهي الإحصاء بالموت فإذا جاء الوقت الذي ينتهي إليه أجل الحياة توفاه الملائكة المرسلون لقبض الأرواح .
فقوله " رسلنا " في قوة النكرة لأن المضاف مشتق فهو بمعنى اسم المفعول فلا تفيده الإضافة تعريفا ، ولذلك فالمراد من الرسل التي تتوفى رسل غير الحفظة المرسلين على العباد ، بناء على الغالب في مجيء نكرة عقب نكرة أن الثانية غير الأولى . وظاهر قوله توفته رسلنا أن عددا من الملائكة يتولى توفي الواحد من الناس .
[ ص: 279 ] وفي الآية الأخرى قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ، وسمي في الآثار عزرائيل ، ونقل عن : أن لملك الموت أعوانا . فالجمع بين الآيتين ظاهر . ابن عباس
وعلق فعل التوفي بضمير أحدكم الذي هو في معنى الذات . والمقصود تعليق الفعل بحال من أحوال أحدكم المناسب للتوفي ، وهو الحياة ، أي توفت حياته وختمتها ، وذلك بقبض روحه .
وقرأ الجمهور توفته بمثناة فوقية بعد الفاء . وقرأ حمزة وحده ( توفاه رسلنا ) وهي في المصحف مرسومة بنتأة بعد الفاء فتصلح لأن تكون مثناة فوقية وأن تكون مثناة تحتية على لغة الإمالة . وهي التي يرسم بها الألفات المنقلبة عن الياءات . والوجهان جائزان في إسناد الفعل إلى جمع التكسير .
وجملة وهم لا يفرطون حال . والتفريط : التقصير في العمل والإضاعة في الذوات . والمعنى أنهم لا يتركون أحدا قد تم أجله ولا يؤخرون توفيه .
والضمير في قوله ردوا عائد إلى أحد باعتبار تنكيره الصادق بكل أحد ، أي ثم يرد المتوفون إلى الله . والمراد رجوع الناس إلى أمر الله يوم القيامة ، أي ردوا إلى حكمه من نعيم وعذاب ، فليس في الضمير التفات .
والمولى هنا بمعنى السيد ، وهو اسم مشترك يطلق على السيد وعلى العبد .
و " الحق " بالجر صفة لـ مولاهم ، لما في مولاهم من معنى مالكهم ، أي مالكهم الحق الذي لا يشوب ملكه باطل يوهن ملكه . وأصل الحق أنه الأمر الثابت فإن كل ملك غير ملك الخالقية فهو مشوب باستقلال مملوكه عنه استقلالا متفاوتا ، وذلك يوهن الملك ويضعف حقيته .
وجملة ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين تذييل ولذلك ابتدئ بأداة الاستفتاح المؤذنة بالتنبيه إلى أهمية الخبر . والعرب يجعلون التذييلات مشتملة على اهتمام أو عموم أو كلام جامع .
[ ص: 280 ] وقدم المجرور في قوله " له الحكم " للاختصاص ، أي له لا لغيره ، فإن كان المراد من الحكم جنس الحكم فقصره على الله إما حقيقي للمبالغة لعدم الاعتداد بحكم غيره ، وإما إضافي للرد على المشركين ، أي ليس لأصنامكم حكم معه ، وإن كان المراد من الحكم الحساب ، أي الحكم المعهود يوم القيامة ، فالقصر حقيقي . وربما ترجح هذا الاحتمال بقوله عقبه وهو أسرع الحاسبين أي ألا له الحساب ، وهو أسرع من يحاسب فلا يتأخر جزاؤه .
وهذا يتضمن وعدا ووعيدا لأنه لما أتي بحرف المهلة في الجمل المتقدمة وكان المخاطبون فريقين : فريق صالح وفريق كافر ، وذكر أنهم إليه يرجعون كان المقام مقام طماعية ومخالفة ; فالصالحون لا يحبون المهلة والكافرون بعكس حالهم ، فعجلت المسرة للصالحين والمساءة للمشركين بقوله وهو أسرع الحاسبين .