[ ص: 410 ] بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم .
جملة مستأنفة وهذا شروع في الإخبار بعظيم قدرة الله تعالى ، وهي تفيد مع ذلك تقوية التنزيه في قوله سبحانه وتعالى عما يصفون فتتنزل منزلة التعليل لمضمون ذلك التنزيه بمضمونها أيضا ، وبهذا الوجه رجح فصلها على عطفها فإن ما يصفونه هو قولهم : إن له ولدا وبنات ، لأن ذلك التنزيه يتضمن نفي الشيء المنزه عنه وإبطاله ، فعلل الإبطال بأنه خالق أعظم المخلوقات دلالة على القدرة ، فإذا كنتم تدعون بنوة الجن والملائكة لأجل عظمتها في المخلوقات وأنتم لا ترون الجن ولا الملائكة فلماذا لم تدعوا البنوة للسماوات والأرض المشاهدة لكم وأنتم ترونها وترون عظمها . فهذا الإبطال بمنزلة النقض في علم الجدل والمناظرة .
وقوله بديع خبر لمبتدأ ملتزم الحذف في مثله ، وهو من حذف المسند إليه الجاري على متابعة الاستعمال عندما يتقدم الحديث عن شيء ثم يعقب بخبر عنه مفرد ، كما تقدم في مواضع .
وتقدم الكلام على بديع السماوات والأرض عند قوله تعالى بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون بديع السماوات والأرض في سورة البقرة .
والاستدلال على انتفاء البنوة عن الله تعالى بإبداع السماوات والأرض لأن خلق المحل يقتضي خلق الحال فيه ، فالمشركون يقولون بأن الملائكة في السماء وأن الجن في الأرض والفيافي ، فيلزمهم حدوث الملائكة والجن وإلا لوجد الحال قبل وجود المحل ، وإذا ثبت الحدود ثبت انتفاء البنوة لله تعالى ، لأن ابن الإله لا يكون إلا إلها فيلزم قدمه ، كيف وقد ثبت حدوثه ، [ ص: 411 ] ولذلك عقب قولهم اتخذ الله ولدا بقوله " سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون " في سورة البقرة ، وقد أشرنا إلى ذلك عند قوله تعالى الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض في أول هذه السورة .
وجملة أنى يكون له ولد تتنزل منزلة التعليل لمضمون التنزيه من الإبطال ، وإنما لم تعطف على التي قبلها لاختلاف طريق الإبطال ؛ لأن الجملة الأولى أبطلت دعواهم من جهة فساد الشبهة فكانت بمنزلة النقض في المناظرة . وهذه الجملة أبطلت الدعوى من جهة إبطال الحقيقة فكأنها من جهة خطأ الدليل ، لأن قولهم بأن الملائكة بنات الله والجن أبناء الله يتضمن دليلا محذوفا على البنوة ، وهو أنهم مخلوقات شريفة ، فأبطل ذلك بالاستدلال بما ينافي الدعوى وهو انتفاء الزوجة التي هي أصل الولادة ، فهذا الإبطال الثاني بمنزلة المعارضة في المناظرة .
و أنى بمعنى من أين وبمعنى كيف .
والواو في ولم تكن له صاحبة واو الحال ؛ لأن هذا معلوم للمخاطبين فلذلك جيء به في صيغة الحال .
والصاحبة : الزوجة لأنها تصاحب الزوج في معظم أحواله . وقد جعل انتفاء الزوجة مسلما لأنهم لم يدعوه فلزمهم انتفاء الولد لانتفاء شرط التولد ، وهذا مبني على المحاجة العرفية بناء على ما هو المعلوم في حقيقة الولادة .
وقوله وخلق كل شيء عطف على جملة بديع السماوات والأرض باعتبار ظاهرها وهو التوصيف بصفات العظمة والقدرة ، فبعد أن أخبر بأنه تعالى مبدع السماوات والأرض أخبر أنه خالق كل شيء ، أي كل موجود فيشمل ذوات السماوات والأرض ، وشمل ما فيهما ، والملائكة من جملة ما تحويه السماوات ، والجن من جملة ما تحويه الأرض عندهم ، فهو خالق هذين الجنسين ، والخالق لا يكون أبا كما علمت . ففي هذه الجملة إبطال [ ص: 412 ] الولد أيضا ، وهذا إبطال ثالث بطريق الكلية بعد أن أبطل إبطالا جزئيا ، والمعنى أن الموجودات كلها متساوية في وصف المخلوقية ، ولو كان له أولاد لكانوا غير مخلوقين .
وجملة وهو بكل شيء عليم تذييل لإتمام تعليم المخاطبين بعض صفات الكمال الثابتة لله تعالى ، فهي جملة معطوفة على جملة وخلق كل شيء باعتبار ما فيها من التوصيف لا باعتبار الرد . ولكون هذه الجملة الأخيرة بمنزلة التذييل عدل فيها عن الإضمار إلى الإظهار في قوله " بكل شيء " دون أن يقول ( به ) لأن التذييلات يقصد فيها أن تكون مستقلة الدلالة بنفسها ؛ لأنها تشبه الأمثال في كونها كلاما جامعا لمعان كثيرة .