عطف على جملة وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم وهذا ضرب آخر من دينهم الباطل ، وهو راجع إلى تحجير التصرف على أنفسهم في بعض أموالهم ، وتعيين مصارفه ، وفي هذا العطف إيماء إلى أن ما قالوه هو من تلقين شركائهم وسدنة أصنامهم كما قلنا في معنى زين لهم شركاؤهم .
والإشارة بهذه وهذه إلى حاضر في ذهن المتكلمين عند صدور ذلك القول ، وذلك أن يقول أحدهم : هذه الأصنام مصرفها كذا ، وهذه مصرفها كذا ، فالإشارة من محكي قولهم حين يشرعون في بيان أحكام [ ص: 106 ] دينهم ، كما يقول القاسم : هذا لفلان ، وهذا للآخر ، وأجمل ذلك هنا ؛ إذ لا غرض في بيانه ؛ لأن الغرض التعجيب من فساد شرعهم ، كما تقدم في قوله تعالى : فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا وقد صنفوا ذلك ثلاثة أصناف :
صنف محجر على مالكه انتفاعه به ، وإنما ينتفع به من يعينه المالك ، والذي يؤخذ مما روي عن وغيره : أنهم كانوا يعينون من أنعامهم وزرعهم وثمارهم شيئا يحجرون على أنفسهم الانتفاع به ، ويعينونه لمن يشاءون من سدنة بيوت الأصنام وخدمتها ، فتنحر أو تذبح عندما يرى من عينت له ذلك ، فتكون لحاجة الناس والوافدين على بيوت الأصنام وإضافتهم ، وكذلك الزرع والثمار تدفع إلى من عينت له ، يصرفها حيث يتعين ، ومن هذا الصنف أشياء معينة بالاسم ، لها حكم منضبط مثل البحيرة ، فإنها لا تنحر ولا تؤكل إلا إذا ماتت حتف أنفها ، فيحل أكلها للرجال دون النساء ، وإذا كان لها در لا يشربه إلا سدنة الأصنام وضيوفهم ، وكذلك السائبة ينتفع بدرها أبناء السبيل والسدنة ، فإذا ماتت فأكلها كالبحيرة ، وكذلك الحامي ، كما تقدم في سورة المائدة . جابر بن زيد
فمعنى ( لا يطعمها ) لا يأكل لحمها ؛ أي : يحرم أكل لحمها ، ونون الجماعة في ( نشاء ) مراد بها القائلون ؛ أي : يقولون لا يطعمها إلا من نشاء ؛ أي : من نعين أن يطعمها ، قال في الكشاف : يعنون خدم الأوثان والرجال دون النساء .
والحرث أصله شق الأرض بآلة حديدية ليزرع فيها أو يغرس ، ويطلق هذا المصدر على المكان المحروث وعلى الأرض المزروعة والمغروسة وإن لم يكن بها حرث ومنه قوله تعالى : أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين فسماه حرثا في وقت جذاذ الثمار .
[ ص: 107 ] الحجر : اسم للمحجر الممنوع ، مثل ذبح للمذبوح ، فمنع الأنعام منع أكل لحومها ، ومنع الحرث منع أكل الحب والتمر والثمار ، ولذلك قال : لا يطعمها إلا من نشاء .
وقوله : ( بزعمهم ) معترض بين لا يطعمها إلا من نشاء وبين وأنعام حرمت ظهورها .
والباء في ( بزعمهم ) بمعنى " عن " ، أو للملابسة ؛ أي : يقولون ذلك باعتقادهم الباطل ، لأنهم لما قالوا : ( لا يطعمها ) لم يريدوا أنهم منعوا الناس أكلها إلا من شاءوه ؛ لأن ذلك من فعلهم وليس من زعمهم ، وإنما أرادوا بالنفي نفي الإباحة ؛ أي : لا يحل أن يطعمها إلا من نشاء ، فالمعنى : اعتقدوها حراما لغير من عينوه ، حتى أنفسهم ، وما هي بحرام ، فهذا موقع قوله : بزعمهم وتقدم القول على الباء من قوله : بزعمهم آنفا عند قوله تعالى : فقالوا هذا لله بزعمهم .
والصنف الثاني : أنعام حرمت ظهورها ؛ أي : حرم ركوبها ، منها الحامي : لا يركبه أحد ، وله ضابط متبع كما تقدم في سورة المائدة ، ومنها أنعام يحرمون ظهورها بالنذر ، يقول أحدهم : إذا فعلت الناقة كذا من نسل أو مواصلة بين عدة من إناث ، وإذا فعل الفحل كذا وكذا ، حرم ظهره ، وهذا أشار إليه في قوله مادحا الأمين : أبو نواس
وإذا المطي بنا بلغن محمدا فظهورهن على الرجال حرام
فقوله : وأنعام حرمت ظهورها معطوف على أنعام وحرث حجر فهو كخبر عن اسم الإشارة ، وعلم أنه عطف صنف ؛ لوروده بعد استيفاء الأوصاف التي أجريت على خبر اسم الإشارة والمعطوف عليه عقبه ، والتقدير : وقالوا هذه أنعام وحرث حجر وهذه أنعام حرمت ظهورها .
[ ص: 108 ] وبني فعل ( حرمت ) للمجهول لظهور الفاعل ؛ أي : حرم الله ظهورها بقرينة قوله : افتراء عليه .
والصنف الثالث : أنعام لا يذكرون اسم الله عليها ؛ أي : لا يذكرون اسم الله عند نحرها أو ذبحها ، يزعمون أن ما أهدي للجن أو للأصنام يذكر عليه اسم ما قرب له ، ويزعمون أن الله أمر بذلك لتكون خالصة القربان لما عينت له ، فلأجل هذا الزعم قال تعالى : افتراء عليه إذ لا يعقل أن ينسب إلى الله تحريم ذكر اسمه على ما يقرب لغيره لولا أنهم يزعمون أن ذلك من القربان الذي يرضى الله تعالى ؛ لأنه لشركائه ، كما كانوا يقولون : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك .
وعن جماعة من المفسرين منهم أبو وائل ؛ الأنعام التي لا يذكرون اسم الله عليها كانت لهم سنة في بعض الأنعام أن لا يحج عليها ، فكانت تركب في كل وجه إلا الحج ، وأنها المراد بقوله : وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها لأن الحج لا يخلو من ذكر الله حين الكون على الراحلة من تلبية وتكبير ، فيكون لا يذكرون اسم الله عليها كناية عن منع الحج عليها ، والظاهر أن هذه هي الحامي والبحيرة والسائبة ؛ لأنهم لما جعلوا نفعها للأصنام لم يجيزوا أن تستعمل في غير خدمة الأصنام .
وقوله : وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها معطوف على قوله : [ ص: 109 ] وأنعام حرمت ظهورها وهو عطف صنف على صنف ، بقرينة استيفاء أوصاف المعطوف عليه ، كما تقدم في نظيره .
وانتصب افتراء عليه على المفعولية المطلقة لـ ( قالوا ) أي : قالوا ذلك قول افتراء ؛ لأن الافتراء بعض أنواع القول ، فصح أن ينتصب على المفعول المطلق المبين لنوع القول ، والافتراء الكذب الذي لا شبهة لقائله فيه وتقدم عند قوله تعالى : فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون في سورة آل عمران ، وعند قوله : ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب في سورة العقود ، وإنما كان قولهم افتراء ؛ لأنهم استندوا فيه لشيء ليس واردا لهم من جانب الله ، بل هو من ضلال كبرائهم .
وجملة سيجزيهم بما كانوا يفترون استئناف بياني ؛ لأن الافتراء على الخالق أمر شنيع عند جميع الخلق ، فالإخبار به يثير سؤال من يسأل عما سيلقونه من جزاء افترائهم ، فأجيب بأن الله سيجزيهم بما كانوا يفترون ، وقد أبهم الجزاء للتهويل لتذهب النفوس كل مذهب ممكن في أنواع الجزاء على الإثم ، والباء بمعنى " عن " ، أو للبدلية والعوض .