[ ص: 153 ] استئناف ابتدائي : للانتقال من طريقة الجدل والمناظرة في إبطال زعمهم إلى إبطاله بطريقة التبيين ؛ أي : أحضروا من يشهدون أن الله حرم هذا ؛ تقصيا لإبطال قولهم من سائر جهاته .
ولذلك أعيد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ما يظهر كذب دعواهم .
وإعادة فعل ( قل ) بدون عطف لاسترعاء الأسماع ولوقوعه على طريقة المحاورة كما قدمنا آنفا .
و ( هلم ) اسم فعل أمر للحضور أو الإحضار ، فهي تكون قاصرة كقوله تعالى : ( هلم إلينا ) ومتعدية كما هنا ، وهو في لغة أهل الحجاز يلزم حالة واحدة فلا تلحقه علامات مناسبة للمخاطب ، فتقول : هلم يا زيد ، وهلم يا هند ، وهكذا ، وفي لغة أهل العالية أعني بني تميم تلحقه علامات مناسبة ، يقولون : هلمي يا هند ، وهلما ، وهلموا ، وهلممن ، وقد جاء في هذه الآية على الأفصح فقال : ( هلم شهداءكم .
والشهداء : جمع شهيد بمعنى شاهد ، والأمر للتعجيز ؛ إذ لا يلقون شهداء يشهدون أن الله حرم ما نسبوا إليه من شئون دينهم المتقدم ذكرها .
وأضيف الشهداء إلى ضمير المخاطبين لزيادة تعجيزهم ؛ لأن شأن المحق أن يكون له شهداء يعلمهم فيحضرهم إذا دعي إلى إحقاق حقه ، كما يقال للرجل : اركب فرسك والحق فلانا ؛ لأن كل ذي بيت في العرب لا يعدم أن يكون له فرس ، فيقول ذلك له من لا يعلم له فرسا خاصا ، ولكن الشأن أن يكون له فرس ومنه قوله تعالى : يدنين عليهن من جلابيبهن وقد لا يكون لإحداهن جلباب كما ورد في الحديث . أنه سئل : إذا لم يكن لإحدانا جلباب ، قال : لتلبسها أختها من جلبابها
[ ص: 154 ] وصفهم بالموصول لزيادة تقرير معنى إعداد أمثالهم للشهادة ، فالطالب ينزل نفسه منزلة من يظنهم لا يخلون عن شهداء بحقهم من شأنهم أن يشهدوا لهم وذلك تمهيد لتعجيزهم البين إذا لم يحضروهم ، كما هو الموثوق به منهم ، ألا ترى قوله : أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فهو يعلم أن ليس ثمة شهداء .
وإشارة ( هذا ) تشير إلى معلوم من السياق ، وهو ما كان الكلام عليه من أول الجدال من قوله : ( ثمانية أزواج ) الآيات ، وقد سبقت الإشارة إليه أيضا بقوله : أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا .
ثم فرع على فرض أن يحضروا شهداء يشهدون ، وقوله : ( فإن شهدوا فلا تشهد معهم أي : إن فرض المستبعد فأحضروا لك شهداء يشهدون أن الله حرم هذا الذي زعموه ، فكذبهم واعلم بأنهم شهود زور ، فقوله : ( فلا تشهد معهم ) كناية عن تكذيبهم ؛ لأن الذي يصدق أحدا يوافقه في قوله ، فاستعمل النهي عن موافقتهم في لازمه ؛ وهو التكذيب ، وإلا فإن النهي عن الشهادة معهم لمن يعلم أنه لا يشهد معهم ؛ لأنه لا يصدق بذلك فضلا على أن يكون شاهده من قبيل تحصيل الحاصل ، فقرينة الكناية ظاهرة .
وعطف على النهي عن تصديقهم النهي عن اتباع هواهم بقوله : ولا تتبع أهواء الذين كذبوا .
وأظهر في مقام الإضمار قوله : الذين كذبوا بآياتنا لأن في هذه الصلة تذكيرا بأن المشركين يكذبون بآيات الله ، فهم ممن يتجنب اتباعهم ، وقيل : أريد بالذين كذبوا اليهود بناء على ما تقدم من احتمال أن يكونوا المراد من قوله : فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة وسمى دينهم هوى لعدم استناده إلى مستند ولكنه إرضاء للهوى ، والهوى غلب إطلاقه على محبة الملائم العاجل الذي عاقبته ضرر ، وقد تقدم عند قوله تعالى : ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم في سورة البقرة .
[ ص: 155 ] وقوله : والذين لا يؤمنون بالآخرة عطف على : الذين كذبوا والمقصود عطف على الصلة ؛ لأن أصحاب الصلتين متحدون ، وهم المشركون ، فهذا كعطف الصفات في قول القائل ، أنشده الفراء :
إلى الملك القرم وابن الهما م وليث الكتيبة في المزدحم
كان مقتضى الظاهر أن لا يعاد اسم الموصول ؛ لأن حرف العطف مغن عنه ، ولكن أجري الكلام على خلاف مقتضى الظاهر لزيادة التشهير بهم ، كما هو بعض نكت الإظهار في مقام الإضمار ، وقيل أريد بالذين كذبوا بالآيات : الذين كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن ، وهم أهل الكتابين ، وبالذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون : المشركون ، وقد تقدم معنى بربهم يعدلون عند قوله تعالى : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون في أول هذه السورة .