ذكرنا في طالعة سورة البقرة أن الحروف المقطعة في أوائل السور أعقبت بذكر القرآن أو الوحي أو في معنى ذلك ، وذلك يرجح أن المقصود من هذه الحروف التهجي ، إبلاغا في التحدي للعرب بالعجز عن الإتيان بمثل القرآن وتخفيفا للعبء عن النبيء - صلى الله عليه وسلم ، فتلك جملة مستقلة وهي هنا معدودة آية ولم تعد في بعض السور .
فقوله : كتاب مبتدأ ووقع الابتداء بالنكرة أما لأنها أريد [ ص: 11 ] بها النوع لا الفرد فلم يكن في الحكم عليها إبهام وذلك كقولهم : رجل جاءني ، أي لا امرأة ، وتمرة خير من جرادة ، وفائدة إرادة النوع الرد على المشركين إنكارهم أن يكون القرآن من عند الله ، واستبعادهم ذلك ، فذكرهم الله بأنه كتاب من نوع الكتب المنزلة على الأنبياء ، فكما نزلت صحف إبراهيم وكتاب موسى كذلك نزل هذا القرآن ، فيكون تنكير النوعية لدفع الاستبعاد ، ونظيره قوله تعالى : قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فالتنكير للنوعية .
وأما لأن التنكير أريد به التعظيم كقولهم "
شر أهر ذا ناب
" أي شر عظيم . وقول عويف القوافي :خبر أتاني عن عيينة موجع كادت عليه تصدع الأكباد
وإما لأنه أريد بالتنكير التعجيب من شأن هذا الكتاب في جميع ما حف به من البلاغة والفصاحة والإعجاز والإرشاد ، وكونه نازلا على رجل أمي .
وقوله : أنزل إليك يجوز أن يكون صفة لـ " كتاب " فيكون مسوغا ثانيا للابتداء بالنكرة ويجوز أن يكون هو الخبر ، فيجوز أن يكون المقصود من الأخبار تذكير المنكرين والمكابرين ، لأن النبيء - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين يعلمون أنه أنزل من عند الله ، فلا يحتاجون إلى الإخبار به ، فالخبر مستعمل في التعريض بتغليط المشركين والمكابرين والقاصدين إغاظة الرسول - عليه الصلاة والسلام - بالإعراض ، ويجوز أن يكون المقصود من الخبر الامتنان والتذكير بالنعمة ، فيكون الخبر مستعملا في الامتنان على طريقة المجاز المرسل المركب .
ويجوز أن يجعل الخبر هو قوله : أنزل إليك مع ما انضم إليه من [ ص: 12 ] التفريع والتعليل ، أي هو كتاب أنزل إليك فكن منشرح الصدر به ، فإنه أنزل إليك لتنذر به الكافرين وتذكر المؤمنين ، والمقصود : تسكين نفس النبيء - صلى الله عليه وسلم ، وإغاظة الكافرين ، وتأنيس المؤمنين ، أي : هو كتاب أنزل لفائدة ، وقد حصلت الفائدة فلا يكن في صدرك حرج إن كذبوا . وبهذه الاعتبارات وبعدم منافاة بعضها لبعض يحمل الكلام على إرادة جميعها وذلك من مطالع السور العجيبة البيان .
ومن المفسرين من قدروا مبتدأ محذوفا ، وجعلوا " كتاب " خبرا عنه ، أي هذا كتاب ، أي أن المشار إليه القرآن الحاضر في الذهن ، أو المشار إليه السورة أطلق عليها كتاب ، ومنهم من جعل كتاب خبرا عن كلمة المص وكل ذلك بمعزل عن متانة المعنى .
وصيغ فعل : " أنزل " بصيغة النائب عن الفاعل اختصارا ، للعلم بفاعل الإنزال ، لأن الذي ينزل الكتب على الرسل هو الله تعالى ، ولما في مادة الإنزال من الإشعار بأنه من الوحي لملائكة العوالم السماوية .
والفاء في قوله : فلا يكن في صدرك اعتراضية إذ الجملة معترضة بين فعل أنزل ومتعلقه وهو لتنذر به ، فإن الاعتراض يكون مقترنا بالفاء كما يكون مقترنا بالواو كما في قوله تعالى : هذا فليذوقوه حميم وغساق وقوله : إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى . وقول الشاعر وهو من الشواهد : اعلم فعلم المرء ينفعه أن سوف يأتي كل ما قدرا
وقول بشار بن برد :
كقائلة إن الحمار فنحه عن القت أهل السمسم المتهذب
والمعنى أن الله أنزله إليك لا ليكون في صدرك حرج ، بل لينشرح صدرك به . ولذلك جاء في نفي الحرج بصيغة نهي الحرج عن أن يحصل في صدر النبيء - صلى الله عليه وسلم - ليكون النهي نهي تكوين ، بمعنى تكوين النفي ، عكس أمر التكوين الذي هو بمعنى تكوين الإثبات . مثل تكوين نفي الحرج عن صدره بحالة نهي العاقل المدرك للخطاب ، عن الحصول في المكان . وجعل صاحب الكشاف النهي متوجها في الحقيقة إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم ، أي نهيه عن المبالاة بالمكذبين بالقرآن ، والغم من صنيعهم ، وجعل النهي في ظاهر اللفظ متوجها إلى الحرج للمبالغة في التكليف ، باقتلاعه من أصله ، على طريقة قول العرب : " لا أرينك هاهنا " أي لا تحضر فأراك ، وقولهم " لا أعرفنك تفعل كذا " أي لا تفعله فأعرفك به ، نهيا بطريق الكناية . وأيا ما كان فالتفريع مناسب لمعاني التنكير المفروض في قوله " كتاب " ، أي فلا يكن في صدرك حرج منه من جهة ما جره نزوله إليك من تكذيب قومك وإنكارهم نزوله ، فلا يكن في صدرك حرج منه من عظم أمره وجلالته ، ولا يكن في صدرك حرج منه من عظم أمره وجلالته ، ولا يكن في صدرك حرج منه فإنه سبب شرح صدرك بمعانيه وبلاغته .
و من ابتدائية ، أي حرج ينشأ ويسري من جراء المذكور ، أي من تكذيب المكذبين به ، فلما كان التكذيب به من جملة شئونه ، وهو سبب الحرج ، صح أن يجعل الحرج مسببا عن الكتاب بواسطة . والمعنى على تقدير مضاف أي حرج من إنكاره أي إنكار إنزاله من الله .
والحرج حقيقته المكان الضيق من الغابات الكثيرة الأشجار ، بحيث [ ص: 14 ] يعسر السلوك فيه ، ويستعار لحالة النفس عند الحزن والغضب والأسف ، لأنهم تخيلوا للغاضب والآسف ضيقا في صدره لما وجدوه يعسر منه التنفس من انقباض أعصاب مجاري النفس ، وفي معنى الآية قوله تعالى : فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير .
و " لتنذر " متعلق بـ " أنزل " على معنى المفعول لأجله ، واقترانه بلام التعليل دون الإتيان بمصدر منصوب لاختلاف فاعل العامل وفاعل الإنذار . وجعل الإنذار به مقدما في التعليل لأنه الغرض الأهم لإبطال ما عليه المشركون من الباطل وما يخلفونه في الناس من العوائد الباطلة التي تعانى إزالتها من الناس بعد إسلامهم .
" وذكرى " يجوز أن يكون معطوفا على لتنذر به ، باعتبار انسباكه بمصدر ، فيكون في محل جر ، ويجوز أن يكون العطف عطف جملة ، ويكون " ذكرى " مصدرا بدلا من فعله ، والتقدير : وذكر ذكرى المؤمنين ، فيكون في محل نصب فيكون اعتراضا .
وحذف متعلق " تنذر " ، وصرح بمتعلق ذكرى لظهور تقدير المحذوف من ذكر مقابله المذكور ، والتقدير : لتنذر به الكافرين ، وصرح بمتعلق الذكرى دون متعلق " تنذر " تنويها بشأن المؤمنين وتعريضا بتحقير الكافرين تجاه ذكر المؤمنين .