عطف على جملة : ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون فهذا تذكير لهم بأن الله هو ولي الخلق ، لأنه خالقهم على وجه الأرض ، وخالق ما به عيشهم الذي به بقاء وجودهم إلى أجل معلوم ، وتوبيخ على قلة شكرها ، كما دل عليه تذييل الجملة بقوله : قليلا ما تشكرون فإن النفوس التي لا يزجرها التهديد قد تنفعها الذكريات الصالحة ، وقد قال أحد الخوارج وطلب منه أن يخرج إلى قتال وكان قد أسدى إليه نعما . الحجاج بن يوسف
أأقاتل الحجاج عن سلطانه بيد تقر بأنها مولاته
وتأكيد الخبر بلام القسم وقد المفيد للتحقيق ، تنزيل للذين هم المقصود من الخطاب منزلة من ينكر مضمون الخبر لأنهم لما عبدوا غير الله كان حالهم كحال من ينكر أن الله هو الذي مكنهم من الأرض ، أو كحال من ينكر وقوع التمكين من أصله .والتمكين جعل الشيء في مكان ، وهو يطلق على الإقدار على التصرف ، على سبيل الكناية ، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى : مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم في سورة الأنعام وهو مستعمل هنا في معناه الكنائي لا الصريح ، أي جعلنا لكم قدرة ، أي أقدرناكم على أمور الأرض وخولناكم التصرف في مخلوقاتها ، وذلك بما أودع الله في البشر من قوة العقل والتفكير [ ص: 34 ] التي أهلته لسيادة هذا العالم والتغلب على مصاعبه ، وليس المراد من التمكين هنا القوة والحكم كالمراد في قوله تعالى : إنا مكنا له في الأرض لأن ذلك ليس حاصلا بجميع البشر إلا على تأويل ، وليس المراد بالتمكين أيضا معناه الحقيقي وهو جعل المكان في الأرض لأن قوله : " في الأرض " يمنع من ذلك ، لأنه لو كان كذلك لقال ولقد مكناكم الأرض ، وقد قال تعالى عن عاد : ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه أي جعلنا ما أقدرناهم عليه أعظم مما أقدرناكم عليه ، أي في آثارهم في الأرض أما أصل القرار في الأرض فهو صراط بينهما .
ومعايش جمع معيشة ، وهي ما يعيش به الحي من الطعام والشراب ، مشتقة من العيش وهو الحياة ، وأصل المعيشة اسم مصدر عاش ، قال تعالى : فإن له معيشة ضنكا سمي به الشيء الذي يحصل به العيش ، تسمية للشيء باسم سببه على طريقة المجاز الذي غلب حتى صار مساويا للحقيقة .
وياء معايش أصل في الكلمة لأنها عين الكلمة من المصدر عيش فوزن معيشة مفعلة ومعايش مفاعل . فحقها أن ينطق بها في الجمع ياء وأن لا تقلب همزة . لأن استعمال العرب في حرف المد الذي في المفرد أنهم إذا جمعوه جمعا بألف زائدة ردوه إلى أصله واوا أو ياء بعد ألف الجمع ، مثل : مفازة ومفاوز ، فيما أصله واو من الفوز ، ومعيبة ومعايب فيما أصله الياء ، فإذا كان حرف المد في المفرد غير أصلي فإنهم إذا جمعوه جمعا بألف زائدة قلبوا حرف المد همزة نحو قلادة وقلائد ، وعجوز وعجائز ، وصحيفة وصحائف ، وهذا الاستعمال من لطائف التفرقة بين حرف المد الأصلي والمد الزائد واتفق القراء على قراءته بالياء ، وروى خارجة بن مصعب ، وحميد بن عمير ، عن نافع أنه قرأ : معائش بهمز بعد الألف ، وهي رواية شاذة عنه لا يعبأ بها ، وقرئ في الشاذ : فالهمز ، رواه عن وفي الكشاف نسبة هذه القراءة إلى الأعرج ، ابن عامر وهو سهو من . الزمخشري
[ ص: 35 ] وقوله : قليلا ما تشكرون هو كقوله في أول السورة قليلا ما تذكرون ونظائره .
والخطاب للمشركين خاصة ، لأنهم الذين قل شكرهم لله تعالى إذ اتخذوا معه آلهة .
ووصف قليل يستعمل في معنى المعدوم كما تقدم آنفا في أول السورة ، ويجوز أن يكون على حقيقته ، أي إن شكركم الله قليل ، لأنهم لما عرفوا أنه ربهم فقد شكروه ، ولكن أكثر أحوالهم هو الإعراض عن شكره والإقبال على عبادة الأصنام وما يتبعها ، ويجوز أن تكون القلة كناية عن العدم على طريقة الكلام المقتصد استنزالا لتذكرهم .
وانتصب قليلا على الحال من ضمير المخاطبين و ما مصدرية ، والمصدر المؤول في محل الفاعل بـ " قليلا " فهي حال سببية .
وفي التعقيب بهذه الآية لآية : وكم من قرية أهلكناها إيماء إلى أن إهمال شكر النعمة يعرض صاحبها لزوالها ، وهو ما دل عليه قوله : أهلكناها .