[ ص: 120 ] جملة : كلما دخلت أمة لعنت أختها مستأنفة استئنافا ابتدائيا ، لوصف أحوالهم في النار ، وتفظيعها للسامع ، ليتعظ أمثالهم ويستبشر المؤمنون بالسلامة مما أصابهم فتكون جملة " حتى إذا اداركوا " داخلة في حيز الاستئناف .
ويجوز أن تكون جملة : كلما دخلت أمة " معترضة بين جملة : قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار وبين جملة : حتى إذا اداركوا فيها " إلخ . على أن تكون جملة " حتى إذا اداركوا مرتبطة بجملة " ادخلوا في أمم " بتقدير محذوف تقديره : فيدخلون حتى إذا اداركوا .
و ( ما ) في قوله : " كلما " ظرفية مصدرية ، أي كل وقت دخول أمة لعنت أختها . والتقدير : لعنت كل أمة منهم أختها في كل أوقات دخول الأمة منهم ، فتفيد عموم الأزمنة .
و ( أمة ) نكرة وقعت في حيز عموم الأزمنة ، فتفيد العموم ، أي كل أمة دخلت ، وكذلك : ( أختها ) نكرة لأنه مضاف إلى ضمير نكرة فلا يتعرف فتفيد العموم ، أيضا ، أي كل أمة تدخل تلعن كل أخت لها ، والمراد بأختها المماثلة لها في الدين الذي أوجب لها الدخول في النار ، كما يقال : هذه الأمة أخت تلك الأمة إذا اشتركتا في النسب ، فيقال : بكر وأختها تغلب ، ومنه قول أبي الطيب :
وكطسم وأختها في البعاد
يريد : كطسم وجديس .والمقام يعين جهة الأخوة ، وسبب اللعن أن كل أمة إنما تدخل النار بعد مناقشة الحساب ، والأمر بإدخالهم النار ، وإنما يقع ذلك بعد أن يتبين لهم [ ص: 121 ] أن ما كانوا عليه من الدين هو ضلال وباطل ، وبذلك تقع في نفوسهم كراهية ما كانوا عليه ، لأن النفوس تكره الضلال والباطل بعد تبينه ، ولأنهم رأوا أن عاقبة ذلك كانت مجلبة العقاب لهم ، فيزدادون بذلك كراهية لدينهم ، فإذا دخلوا النار فرأوا الأمم التي أدخلت النار قبلهم علموا ، بوجه من وجوه العلم ، أنهم أدخلوا النار بذلك السبب فلعنوهم لكراهية دينهم ومن اتبعوه .
وقيل : المراد بأختها أسلافها الذين أضلوها .
وأفادت كلما لما فيها من معنى التوقيت : أن ذلك اللعن يقع عند دخول الأمة النار ، فيتعين إذن أن يكون التقدير : لعنت أختها السابقة إياها في الدخول في النار ، فالأمة التي تدخل النار أول مرة قبل غيرها من الأمم لا تلعن أختها ، ويعلم أنها تلعن من يدخل بعدها الثانية ، ومن بعدها بطريق الأولى ، أو ترد اللعن على كل أخت لاعنة . والمعنى : كلما دخلت أمة منهم بقرينة قوله " لعنت أختها " .
و ( حتى ) في قوله : حتى إذا اداركوا ابتدائية ، فهي جملة مستأنفة وقد تقدم في الآية قبل هذه أن حتى الابتدائية تفيد معنى التسبب ، أي تسبب مضمون ما قبلها في مضمون ما بعدها ، فيجوز أن تكون مترتبة في المعنى على مضمون قوله : قال ادخلوا في أمم قد خلت إلخ ، ويجوز أن تكون مترتبة على مضمون قوله : كلما دخلت أمة لعنت أختها .
و ( اداركوا ) أصله تداركوا فقلبت التاء دالا ليتأتى إدغامها في الدال للتخفيف ، وسكنت ليتحقق معنى الإدغام المتحركين لثقل واجتلبت همزة الوصل لأجل الابتداء بالساكن ، وهذا قلب ليس بمتعين ، وإنما هو مستحسن ، وليس هو مثل قلب التاء في ادان وازداد وادكر . ومعناه : أدرك بعضهم بعضا ، فصيغ من الإدراك وزن التفاعل ، والمعنى : تلاحقوا واجتمعوا في النار . وقوله ( جميعا ) حال من ضمير اداركوا لتحقيق استيعاب الاجتماع ، أي حتى إذا اجتمعت أمم الضلال كلها .
[ ص: 122 ] والمراد : بـ ( أخراهم ) : الآخرة في الرتبة ، وهم الأتباع والرعية من كل أمة من تلك الأمم ، لأن كل أمة في عصر لا تخلو من قادة ورعاع ، والمراد بالأولى : الأولى في المرتبة والاعتبار ، وهم القادة والمتبوعون من كل أمة أيضا ، فالأخرى والأولى هنا صفتان جرتا على موصوفين محذوفين ، أي أخرى الطوائف لأولاهم ، وقيل : أريد بالأخرى المتأخرة في الزمان ، وبالأولى أسلافهم ، لأنهم يقولون إنا وجدنا آباءنا على أمة . وهذا لا يلائم ما يأتي بعده .
واللام في : ( لأولاهم ) لام العلة ، وليست اللام التي يتعدى بها فعل القول ، لأن قول الطائفة الأخيرة موجه إلى الله تعالى ، بصريح قولهم : ربنا هؤلاء أضلونا إلخ ، لا إلى الطائفة الأولى ، فهي كاللام في قوله تعالى : وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه .
والضعف بكسر الضاد المثل لمقدار الشيء ، وهو من الألفاظ الدالة على معنى نسبي يقتضي وجود معنى آخر ، كالزوج والنصف ، ويختص بالمقدار والعدد ، هذا قول أبي عبيدة وأيمة اللغة ، وقد يستعمل فعله في مطلق التكثير وذلك إذا أسند إلى ما لا يدخل تحت المقدار ، مثل العذاب في قوله تعالى : والزجاج يضاعف له العذاب يوم القيامة وقوله يضاعف لها العذاب ضعفين أراد الكثرة القوية فقولهم هنا فآتهم عذابا ضعفا أي أعطهم عذابا هو ضعف عذاب آخر ، فعلم أنه آتاهم عذابا ، وهم سألوا زيادة قوة فيه تبلغ ما يعادل قوته ، ولذلك لما وصف بضعف علم أنه مثل لعذاب حصل قبله إذ لا تقول : أكرمت فلان ضعفا ، إلا إذا كان إكرامك في مقابلة إكرام آخر ، فأنت تزيده ، فهم سألوا لهم مضاعفة العذاب لأنهم علموا أن الضلال سبب العذاب ، فعلموا أن الذين شرعوا الضلال هم أولى بعقوبة أشد من عقوبة الذين تقلدوه واتبعوهم ، كما [ ص: 123 ] قال تعالى في الآية الأخرى : يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين .
وفعل : ( قال ) حكاية لجواب الله إياهم عن سؤالهم مضاعفة العذاب لقادتهم ، فلذلك فصل ولم يعطف جريا على طريقة حكاية الأقوال في المحاورات . والتنوين في قوله : ( لكل ) : عوض عن المضاف إليه المحذوف ، والتقدير : لكل أمة ، أو لكل طائفة ضعف ، أي زيادة عذاب مثل العذاب الذي هي معذبة أول الأمر ، فأما مضاعفة العذاب للقادة فلأنهم سنوا الضلال أو أيدوه ونصروه وذبوا عنه بالتمويه والمغالطات فأضلوا ، وأما مضاعفته للأتباع فلأنهم ضلوا بإضلال قادتهم ، ولأنهم بطاعتهم العمياء لقادتهم ، وشكرهم إياهم على ما يرسمون لهم ، وإعطائهم إياهم الأموال والرشى ، يزيدونهم طغيانا وجراءة على الإضلال ويغرونهم بالازدياد منه .
والاستدراك في قوله : ( ولكن لا تعلمون ) لرفع ما توهمه : أن التغليظ على الأتباع بلا موجب ، لأنهم لولا القادة لما ضلوا ، والمعنى : أنكم لا تعلمون الحقائق ولا تشعرون بخفايا المعاني ، فلذلك ظننتم أن موجب مضاعفة العذاب لهم دونكم هو أنهم علموكم الضلال ، ولو علمتم حق العلم لاطلعتم على ما كان لطاعتكم إياهم من الأثر في إغرائهم بالازدياد من الإضلال . التسوية بين القادة والأتباع في مضاعفة العذاب
ومفعول تعلمون محذوف دل عليه قوله : ( لكل ضعف ) ، والتقدير : لا تعلمون سبب تضعيف العذاب لكل من الطائفتين ، يعني لا تعلمون سبب تضعيفه لكم لظهور أنهم علموا سبب تضعيفه للذين أضلوهم .
وقرأ الجمهور : ( لا تعلمون ) بتاء الخطاب على أنه من تمام ما خاطب الله به الأمة الأخرى ، وقرأه أبو بكر عن عاصم بياء الغيبة فيكون [ ص: 124 ] بمنزلة التذييل خطابا لسامعي القرآن ، أي قال الله لهم ذلك وهم لا يعلمون أن لكل ضعفا فلذلك سألوا التغليظ على القادة فأجيبوا بأن التغليظ قد سلط على الفريقين .
وعطفت جملة : ( وقالت أولاهم لأخراهم ) على جملة : ( قالت أخراهم لأولاهم ) لأنهم لم يدخلوا في المحاورة ابتداء فلذلك لم تفصل الجملة .
والفاء في قولهم : فما كان لكم علينا من فضل فاء فصيحة ، مرتبة على قول الله تعالى لكل ضعف حيث سوى بين الطائفتين في مضاعفة العذاب . و ( ما ) نافية . و ( من ) زائدة لتأكيد نفي الفضل ، لأن إخبار الله تعالى بقوله : ( لكل ضعف ) سبب للعلم بأن لا مزية لأخراهم عليهم في تعذيبهم عذابا أقل من عذابهم ، فالتقدير : فإذا كان لكل ضعف فما كان لكم من فضل ، والمراد بالفضل الزيادة من العذاب .
وقوله : فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون يجوز أن يكون من كلام أولاهم : عطفوا قولهم : ( ذوقوا العذاب ) على قولهم : ( فما كان لكم علينا من فضل ) بفاء العطف الدالة على الترتب . فالتشفي منهم فيما نالهم من عذاب الضعف ترتب على تحقق انتفاء الفضل بينهم في تضعيف العذاب الذي أفصح عنه إخبار الله بأن لهم عذابا ضعفا .
وصيغة الأمر في قولهم : فذوقوا مستعملة في الإهانة والتشفي .
والذوق استعمل مجازا مرسلا في الإحساس بحاسة اللمس ، وقد تقدم نظائره غير مرة .
والباء سببية ، أي بسبب ما كنتم تكسبون مما أوجب لكم مضاعفة العذاب ، وعبر بالكسب دون الكفر لأنه أشمل لأحوالهم ، لأن إضلالهم لأعقابهم كان بالكفر وبحب الفخر والإغراب بما علموهم وما سنوا لهم ، فشمل ذلك كله أنه كسب .
[ ص: 125 ] يجوز أن يكون قوله فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون من كلام الله تعالى ، مخاطبا به كلا الفريقين ، فيكون عطفا على قوله : لكل ضعف ولكن لا تعلمون ويكون قوله : وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل : جملة معترضة بين الجملتين المتعاطفتين ، وعلى اعتباره يكون الأمر في قوله : فذوقوا للتكوين والإهانة .
وفيما قص الله من محاورة قادة الأمم وأتباعهم ما فيه ، ويحسن لهم هواهم ، وموعظة لعامتهم من الاسترسال في تأييد من يشايع هواهم ، ولا يبلغهم النصيحة ، وفي الحديث : موعظة وتحذير لقادة المسلمين من الإيقاع بأتباعهم فيما يزج بهم في الضلالة . كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته