ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين استئناف جاء معترضا بين ذكر دلائل وحدانية الله تعالى بذكر عظيم قدرته على تكوين أشياء لا يشاركه غيره في تكوينها ، فالجملة معترضة بين [ ص: 171 ] جملة يغشي الليل النهار وجملة وهو الذي يرسل الرياح جرى هذا الاعتراض على عادة القرآن في انتهاز فرص تهيؤ القلوب للذكرى . والخطاب بـ ادعوا خاص بالمسلمين لأنه تعليم ، وليس المشركون بمتهيئين لمثل هذا الخطاب ، وهو تقريب للمؤمنين وإدناء لهم وتنبيه على رضى الله عنهم ومحبته ، وشاهده قوله بعده : إن رحمة الله قريب من المحسنين . لأدب دعاء الله تعالى وعبادته
والخطاب موجه إلى المسلمين بقرينة السياق .
النداء ، ويطلق أيضا على النداء لطلب مهم ، واستعمل مجازا في العبادة لاشتمالها على الدعاء والطلب بالقول أو بلسان الحال ، كما في الركوع والسجود ، مع مقارنتهما للأقوال وهو إطلاق كثير في القرآن . و الدعاء حقيقته
والظاهر أن المراد منه هنا الطلب والتوجه ، لأن المسلمين قد عبدوا الله وأفردوه بالعبادة ، وإنما المهم إشعارهم بالقرب من رحمة ربهم وإدناء مقامهم منها .
وجيء لتعريف الرب بطريق الإضافة دون ضمير الغائب ، مع وجود معاد قريب في قوله تبارك الله ودون ضمير المتكلم ، لأن في لفظ الرب إشعارا بتقريب المؤمنين بصلة المربوبية ، وليتوسل بإضافة الرب إلى ضمير المخاطبين إلى تشريف المؤمنين وعناية الرب بهم كقوله بل الله مولاكم .
والتضرع : إظهار التذلل بهيئة خاصة ، ويطلق على الجهر بالدعاء لأن الجهر من هيئة التضرع ، لأنه تذلل جهري ، وقد فسر في هذه الآية وفي قوله في سورة الأنعام تدعونه تضرعا وخفية بالجهر بالدعاء ، وهو الذي نختاره لأنه أنسب بمقابلته بالخفية ، فيكون أسلوبه وفقا لأسلوب نظيره في قوله وادعوه خوفا وطمعا وتكون ، الواو للتقسيم بمنزلة أو وقد قالوا : إنها فيه أجود من أو . ومن المفسرين من أبقى التضرع على حقيقته وهو التذلل ، فيكون مصدرا بمعنى الحال ، أي متذللين ، [ ص: 172 ] أو مفعولا مطلقا لـ ادعوا ، لأن التذلل بعض أحوال الدعاء فكأنه نوع منه ، وجعلوا قوله ( وخفية ) مأمورا به مقصورا بذاته ، أي ادعوه مخفين دعاءكم ، حتى أوهم كلام بعضهم أن الإعلان بالدعاء منهي عنه أو غير مثوب عليه ، وهذا خطأ : فإن النبيء - صلى الله عليه وسلم - دعا علنا غير مرة . وعلى المنبر بمسمع من الناس وقال : التضرع . وقال : اللهم اسقنا . وقال : اللهم حوالينا ولا علينا بقريش . الحديث . وما رويت أدعيته إلا لأنه جهر بها يسمعها من رواها ، فالصواب أن قوله تضرعا إذن بالدعاء بالجهر والإخفاء ، وأما ما ورد من النهي عن الجهر فإنما هو عن الجهر الشديد الخارج عن حد الخشوع . وقرأ الجمهور ( وخفية ) بضم الخاء وقرأه اللهم عليك أبو بكر بكسر الخاء وتقدم في الأنعام .
وجملة إنه لا يحب المعتدين واقعة موقع التعليل للأمر بالدعاء ، إشارة إلى أنه أمر تكريم للمسلمين يتضمن رضا الله عنهم ، ولكن سلك في التعليل طريق إثبات الشيء بإبطال ضده ، تنبيها على قصد الأمرين وإيجازا في الكلام . ولكون الجملة واقعة موقع التعليل افتتحت بـ إن المفيدة لمجرد الاهتمام ، بقرينة خلو المخاطبين عن التردد في هذا الخبر ، ومن شأن إن إذا جاءت على هذا الوجه أن تفيد التعليل والربط ، وتقوم مقام الفاء ، كما نبه عليه . الشيخ عبد القاهر
وإطلاق المحبة وصفا لله تعالى ، في هذه الآية ونحوها ، إطلاق مجازي مراد بها لازم معنى المحبة ، بناء على أن حقيقة المحبة انفعال نفساني ، وعندي فيه احتمال ، فقالوا : أريد لازم المحبة ، أي في المحبوب والمحب ، فيلزمها اتصاف المحبوب بما يرضي المحب لتنشأ المحبة التي أصلها الاستحسان ، ويلزمها رضى المحب عن محبوبه وإيصال النفع له . وهذان اللازمان متلازمان في أنفسهما ، فإطلاق المحبة وصفا لله مجاز بهذا اللازم المركب .
[ ص: 173 ] والمراد بـ ( المعتدين ) المشركون ، لأنه يرادف الظالمين .
والمعنى : ادعوا ربكم لأنه يحبكم ولا يحب المعتدين ، كقوله وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين تعريض بالوعد بإجابة دعاء المؤمنين وأنه لا يستجيب دعاء الكافرين ، قال تعالى وما دعاء الكافرين إلا في ضلال على أحد تأويلين فيها . وحمل بعض المفسرين التضرع على الخضوع ، فجعلوا الآية مقصورة على طلب الدعاء الخفي حتى بالغ بعضهم فجعل الجهر بالدعاء منهيا عنه ، وتجاوز بعضهم فجعل قوله إنه لا يحب المعتدين تأكيدا لمعنى الأمر بإخفاء الدعاء ، وجعل الجهر بالدعاء من الاعتداء والجاهرين به من المعتدين الذين لا يحبهم الله . ونقل ذلك عن وأحسب أنه نقل عنه غير مضبوط العبارة ، كيف وقد دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جهرا ودعا أصحابه . ابن جريج ،