وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين عود إلى أمر الدعاء لأن ما قبله من النهي عن الإفساد أشبه الاحتراس المعترض بين أجزاء الكلام ، وأعيد الأمر بالدعاء ليبنى عليه قوله خوفا وطمعا قصدا لتعليم الباعث على الدعاء بعد أن علموا كيفيته ، وهذا الباعث تنطوي تحته أغراض الدعاء وأنواعه ، فلا إشكال في عطف الأمر بالدعاء على مثله لأنهما مختلفان باختلاف متعلقاتهما .
والخوف تقدم عند قوله تعالى إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله .
والطمع تقدم في قوله أفتطمعون أن يؤمنوا لكم في سورة البقرة .
وانتصاب خوفا وطمعا هنا على المفعول لأجله ، أي أن الدعاء يكون لأجل خوف منه وطمع فيه ، فحذف متعلق الخوف والطمع لدلالة الضمير المنصوب في ادعوه .
[ ص: 176 ] والواو للتقسيم للدعاء بأنه يكون على نوعين .
فالخوف من غضبه وعقابه ، والطمع في رضاه وثوابه ، والدعاء لأجل الخوف نحو الدعاء بالمغفرة ، والدعاء لأجل الطمع نحو الدعاء بالتوفيق وبالرحمة . وليس المراد أن الدعاء يشتمل على خوف وطمع في ذاته كما فسر به الفخر في السؤال الثالث لأن ذلك وإن صح في الطمع لا يصح في الخوف إلا بسماجة ، وفي دليل على أن من حظوظ المكلفين في أعمالهم مراعاة جانب الخوف من عقاب الله والطمع في ثوابه ، وهذا مما طفحت به أدلة الكتاب والسنة ، وقد أتى الأمر بالدعاء خوفا وطمعا الفخر في السؤال الثاني في تفسير الآية بكلام غير ملاق للمعروف عند علماء الأمة ، ونزع به نزعة المتصوفة الغلاة ، وتعقبه يطول ، فدونك فانظره إن شئت .
وقد شمل الخوف والطمع جميع ما تتعلق به أغراض المسلمين نحو ربهم في عاجلهم وآجلهم ، ليدعوا الله بأن ييسر لهم أسباب حصول ما يطمعون ، وأن يجنبهم أسباب حصول ما يخافون ، وهذا يقتضي توجه همتهم إلى اجتناب المنهيات لأجل خوفهم من العقاب ، وإلى امتثال المأمورات لأجل الطمع في الثواب ، فلا جرم أنه اقتضى الأمر بالإحسان ، وهو أن يعبدوا الله عبادة من هو حاضر بين يديه فيستحيي من أن يعصيه ، فالتقدير : وادعوه خوفا وطمعا وأحسنوا بقرينة تعقيبه بقوله إن رحمة الله قريب من المحسنين . وهذا إيجاز .
وجملة إن رحمة الله قريب من المحسنين واقعة موقع التفريع على جملة ( وادعوه ) ، فلذلك قرنت بـ إن الدالة على التوكيد ، وهو لمجرد الاهتمام بالخبر ، إذ ليس المخاطبون بمترددين في مضمون الخبر ، ومن شأن إن إذا جاءت على هذا الوجه أن تفيد التعليل وربط مضمون جملتها بمضمون الجملة التي قبلها ، فتغني عن فاء التفريع ، ولذلك فصلت الجملة عن التي قبلها فلم تعطف لإغناء إن عن العاطف .
[ ص: 177 ] ورحمة الله : إحسانه وإيتاؤه الخير .
والقرب حقيقته دنو المكان وتجاوره ، ويطلق على الرجاء مجازا يقال : هذا قريب ، أي ممكن مرجو ، ومنه قوله تعالى إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا فإنهم كانوا ينكرون الحشر وهو عند الله واقع لا محالة ، فالقريب هنا بمعنى المرجو الحصول وليس بقرب مكان ، ودل قوله قريب من المحسنين على مقدر في الكلام ، أي وأحسنوا لأنهم إذا دعوا خوفا وطمعا فقد تهيأوا لنبذ ما يوجب الخوف ، واكتساب ما يوجب الطمع ، لئلا يكون الخوف والطمع كاذبين ، لأن من خاف لا يقدم على المخوف ، ومن طمع لا يترك طلب المطموع ، ويتحقق ذلك بالإحسان في العمل ، فلا جرم تكون رحمة الله قريبا منهم ، وسكت عن ضد المحسنين رفقا بالمؤمنين وتعريضا بأنهم لا يظن بهم أن يسيئوا فتبعد الرحمة عنهم . ويلزم من الإحسان ترك السيئات
وعدم لحاق علامة التأنيث لوصف ( قريب ) مع أن موصوفه مؤنث اللفظ ، وجهه علماء العربية بوجوه كثيرة ، وأشار إليهما في الكشاف ، وجلها يحوم حول تأويل الاسم المؤنث بما يرادفه من اسم مذكر ، أو الاعتذار بأن بعض الموصوف به غير حقيقي التأنيث كما هنا ، وأحسنها عندي قول الفراء وأبي عبيدة : أن قريبا أو بعيدا إذا أطلق على قرابة النسب أو بعد النسب فهو مع المؤنث بتاء ولا بد ، وإذا أطلق على قرب المسافة أو بعدها جاز فيه مطابقة موصوفه وجاز فيه التذكير على التأويل بالمكان ، وهو الأكثر ، قال الله تعالى وما هي من الظالمين ببعيد وقال وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا . ولما كان إطلاقه في هذه الآي على وجه الاستعارة من قرب المسافة جرى على الشائع في استعماله في المعنى الحقيقي ، وهذا من لطيف الفروق العربية في استعمال المشترك إزالة للإبهام بقدر الإمكان .