[ ص: 26 ] أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون
عطفت على جملة أفأمن أهل القرى لاشتراك مضمون الجملتين في الاستفهام التعجيبي ، فانتقل عن التعجيب من حال الذين مضوا إلى التعجيب من حال الأمة الحاضرة ، وهي الأمة العربية الذين ورثوا ديار الأمم الماضية فسكنوها : مثل أهل نجران ، وأهل اليمن ، ومن سكنوا ديار ثمود مثل بلي ، وكعب ، والضجاغم ، وبهراء ، ومن سكنوا ديار مدين مثل جهينة ، وجرم ، وكذلك من صاروا قبائل عظيمة فنالوا السيادة على القبائل : مثل قريش ، وطيئ ، وتميم ، وهذيل ، فالموصول بمنزلة لام التعريف العهدي ، وقد يقصد بالذين يرثون الأرض كل أمة خلفت أمة قبلها ، فيشمل عادا وثمودا ، فقد قال لكل نبيهم : واذكروا إذ جعلكم خلفاء إلخ ولكن المشركين من العرب يومئذ مقصودون في هذا ابتداء . فالموصول بمنزلة لام الجنس .
والاستفهام في قوله أولم يهد مستعمل في التعجيب ، مثل الذي في قوله أفأمن أهل القرى تعجيبا من شدة ضلالتهم إذ عدموا ، ونسوا أن الله قادر على استئصالهم إذا شاءه . الاهتداء والاتعاظ بحال من قبلهم من الأمم
والتعريف في الأرض تعريف الجنس ، أي يرثون أي أرض كانت منازل لقوم قبلهم ، وهذا إطلاق شائع في كلام العرب ، يقولون هذه أرض طيء ، وفي حديث الجنازة من أهل الأرض أي من السكان القاطنين بأرضهم لا من المسلمين الفاتحين . فالأرض بهذا المعنى اسم جنس صادق على شائع متعدد ، فتعريفه تعريف الجنس ، وبهذا الإطلاق جمعت على أرضين ، فالمعنى : أولم يهد للذين يرثون أرضا من بعد أهلها .
والإرث : مصير مال الميت إلى من هو أولى به ، ويطلق مجازا على مماثلة الحي ميتا في صفات كانت له ، من عز أو سيادة ، كما فسر به قوله - تعالى - حكاية عن زكريا فهب لي من لدنك وليا يرثني أي يخلفني في النبوءة ، وقد يطلق على القدر [ ص: 27 ] المشترك بين المعنيين . وهو مطلق خلافة المنقرض ، وهو هنا محتمل للإطلاقين ؛ لأنه إن أريد بالكلام أهل مكة فالإرث بمعناه المجازي ، وإن أريد أهل مكة والقبائل التي سكنت بلاد الأمم الماضية فهو مستعمل في القدر المشترك ، وهو كقوله - تعالى - : الأرض يرثها عبادي الصالحون أن وأيا ما كان فقيد من بعد أهلها تأكيد لمعنى يرثون ، يراد منه تذكير السامعين بما كان فيه أهل الأرض الموروثة من بحبوحة العيش ، ثم ما صاروا إليه من الهلاك الشامل العاجل ، تصويرا للموعظة بأعظم صورة فهو كقوله - تعالى - ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون .
ومعنى لم يهد : لم يرشد ويبين لهم ، فالهداية أصلها تبيين الطريق للسائر ، واشتهر استعمالهم في مطلق الإرشاد : مجازا أو استعارة كقوله - تعالى - اهدنا الصراط المستقيم . وتقدم أن فعلها يتعدى إلى مفعولين ، وأنه يتعدى إلى الأول منهما بنفسه وإلى الثاني تارة بنفسه وأخرى بالحرف : اللام أو إلى ، فلذلك كانت تعديته إلى المفعول الأول باللام في هذه الآية إما لتضمينه معنى يبين ، وإما لتقوية تعلق معنى الفعل بالمفعول كما في قولهم : شكرت له ، وقوله - تعالى - : فهب لي من لدنك وليا ، ومثل قوله - تعالى - أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم في سورة طه .
و ( أن ) مخففة من " أن " واسمها ضمير الشأن ، وجملة لو نشاء خبرها ، ولما كانت أن - المفتوحة الهمزة - من الحروف التي تفيد المصدرية على التحقيق ؛ لأنها مركبة من إن المكسورة المشددة ، ومن أن المفتوحة المخففة المصدرية لذلك عدت في الموصولات الحرفية وكان ما بعدها مؤولا بمصدر منسبك من لفظ خبرها إن كان مفردا مشتقا ، أو من الكون إن كان خبرها جملة . فموقع أن لو نشاء أصبناهم موقع فاعل يهد ، والمعنى : أولم يبين للذين يخلفون في الأرض بعد أهلها كون الشأن المهم ، وهو لو نشاء أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا من قبلهم .
وهؤلاء هم الذين أشركوا بالله وكذبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - .
والإصابة : نوال الشيء المطلوب بتمكن فيه ، فالمعنى : أن نأخذهم أخذا لا يفلتون منه . والباء في بذنوبهم للسببية ، وليست لتعدية فعل أصبناهم .
[ ص: 28 ] وجملة أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم واقعة موقع مفرد ، هو فاعل يهد ، فأن مخففة من الثقيلة وهي من حروف التأكيد والمصدرية واسمها في حالة التخفيف ، ضمير شأن مقدر ، وجملة شرط لو وجوابه خبر أن .
: في الماضي ، أو في المستقبل ، وإذ قد كان فعل الشرط هنا مضارعا كان في معنى الماضي ، إذ لا يجوز اختلاف زمني فعلي الشرط والجواب ، وإنما يخالف بينهما في الصورة لمجرد التفنن كراهية تكرير الصورة الواحدة ، فتقدير قوله و لو حرف شرط يفيد تعليق امتناع حصول جوابه لأجل امتناع حصول شرطه لو نشاء أصبناهم انتفى أخذنا إياهم في الماضي بذنوب تكذيبهم ، لأجل انتفاء مشيئتنا ذلك لحكمة إمهالهم لا لكونهم أعز من الأمم البائدة أو أفضل حالا منهم ، كما قال - تعالى - فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم الآية ، وفي هذا تهديد بأن الله قد يصيبهم بذنوبهم في المستقبل ، إذ لا يصده عن ذلك غالب ، والمعنى : أغرهم تأخر العذاب مع تكذيبهم فحسبوا أنفسهم في منعة منه ، ولم يهتدوا إلى أن انتفاء نزوله بهم معلق على انتفاء مشيئتنا وقوعه لحكمة ، فيما بينهم وبين العذاب إلا أن نشاء أخذهم . والمصدر الذي تفيده ( أن ) المخففة ، إذا كان اسمها ضمير شأن ، يقدر ثبوتا متصيدا مما في أن وخبرها من النسبة المؤكدة ، وهو فاعل يهد فالتقدير في الآية : أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها ثبوت هذا الخبر المهم وهو لو نشاء أصبناهم بذنوبهم .
والمعنى : أعجبوا كيف لم يهتدوا إلى أن تأخير العذاب عنهم هو بمحض مشيئتنا وأنه يحق عليهم عندما نشاؤه .
وجملة ونطبع على قلوبهم ليست معطوفة على جملة أصبناهم حتى تكون في حكم جواب لو ؛ لأن هذا يفسد المعنى ، فإن هؤلاء الذين ورثوا الأرض من بعد أهلها قد طبع على قلوبهم فلذلك لم تجد فيهم دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - منذ بعث إلى زمن نزول هذه السورة ، فلو كان جوابا لـ لو لصار الطبع على قلوبهم [ ص: 29 ] ممتنعا وهذا فاسد ، فتعين : إما أن تكون جملة ونطبع معطوفة على جملة الاستفهام برمتها فلها حكمها من العطف على أخبار الأمم الماضية والحاضرة .
والتقدير : وطبعنا على قلوبهم ، ولكنه صيغ بصيغة المضارع للدلالة على استمرار هذا الطبع وازدياده آنا فآنا ، وإما أن تجعل " الواو " للاستئناف والجملة مستأنفة ، أي : ونحن نطبع على قلوبهم في المستقبل كما طبعنا عليها في الماضي . ويعرف الطبع عليها في الماضي بأخبار أخرى كقوله - تعالى - إن الذين كفروا سواء عليهم الآية ، فتكون الجملة تذييلا لتنهية القصة ، ولكن موقع الواو في أول الجملة يرجح الوجه الأول ، وكأن صاحب المفتاح يأبى اعتبار الاستئناف من معاني الواو .
وجملة ( فهم لا يسمعون ) معطوفة بالفاء على ( نطبع ) متفرعا عليه ، والمراد بالسماع فهم مغزى المسموعات لا استكاك الآذان ، بقرينة قوله ونطبع على قلوبهم . وتقدم معنى الطبع عند قوله - تعالى - بل طبع الله عليها بكفرهم في سورة النساء .