( على قلبك ) : أتى بلفظ على ؛ لأن القرآن مستعل على القلب ، إذ القلب سامع له ومطيع ، يمتثل ما أمر به ، ويجتنب ما نهى عنه . وكانت أبلغ من إلى ؛ لأن إلى تدل على الانتهاء فقط ، وعلى تدل على الاستعلاء . وما استعلى على الشيء يضمن الانتهاء إليه . وخص القلب - ولم يأت عليك - لأن القلب هو محل العقل والعلم وتلقي الواردات ، أو لأنه صحيفته التي يرقم فيها ، وخزانته التي يحفظ فيها ، أو لأنه سلطان الجسد . وفي الحديث : " " . أو لأن القلب خيار الشيء وأشرفه ، أو لأنه بيت الله ، أو لأنه كنى به عن العقل إطلاقا للمحل على الحال به ، أو عن الجملة الإنسانية ، إذ قد ذكر الإنزال عليه في أماكن : ( إن في الجسد مضغة " . ثم قال أخيرا : " ألا وهي القلب ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ) ، ( وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة ) ، أو يكون إطلاقا لبعض الشيء على كله ، أقوال سبعة . وأضاف القلب إلى الكاف التي للخطاب ، ولم يضفه إلى ياء المتكلم ، وإن كان نظم الكلام يقتضيه ظاهرا ؛ لأن قوله : ( من كان عدوا لجبريل ) ، هو معمول لقول مضمر ، التقدير : قل يا محمد : قال الله : ( من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك ) . وإلى هذا نحا بقوله : جاءت على حكاية كلام الله تعالى ، كأنه قيل : ما تكلمت به من قولي : ( الزمخشري من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك ) ، وكلامه فيه تثبيج . وقال ابن عطية : يحسن في كلام العرب أن يحرز اللفظ الذي يقوله المأمور بالقول ، ويحسن أن يقصد المعنى بقوله ، فيسرده مخاطبة له ، كما تقول : قل لقومك لا يهينوك ، فكذلك هذه الآية ، ونحو من هذا قول : الفرزدق
ألم تر أني يوم جو سويقة دعوت فنادتني هنيدة ماليا
فأحرز المعنى ، ونكب عن نداء هنيدة مالك . انتهى كلامه ، وهو تخريج حسن ، ويكون إذ ذاك الجملة الشرطية معمولة للفظ : قل ، لا لقول مضمر ، وهو ظاهر الكلام .
( بإذن الله ) : أي بأمر الله ، اختاره في المنتخب ومنه : ( لا تكلم نفس إلا بإذنه ) ، ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) . وقد صرح بذلك في : ( وما نتنزل إلا بأمر ربك ) ، أو بعلمه وتمكينه إياه من هذه المنزلة ، قاله ابن عطية ; أو باختياره ، قاله الماوردي ، أو بتيسيره وتسهيله ، قاله . الزمخشري
( مصدقا لما بين يديه ) : انتصاب مصدقا على الحال من الضمير المنصوب في نزله ، إن كان يعود على القرآن ، وإن عاد على جبريل فيحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون [ ص: 321 ] حالا من المجرور المحذوف لفهم المعنى ؛ لأن المعنى : فإن الله نزل جبريل بالقرآن مصدقا . والثاني : أن يكون حالا من جبريل . وما في " لما " موصولة ، وعنى بها الكتب التي أنزل الله على الأمم قبل إنزاله ، أو التوراة والإنجيل . والهاء في " بين يديه " يحتمل أن تكون عائدة على القرآن ، ويحتمل أن تعود على جبريل . فالمعنى مصدقا لما بين يديه من الرسل والكتب .
( وهدى وبشرى ) : معطوفان على مصدقا ، فهما حالان ، فيكون من وضع المصدر موضع اسم الفاعل كأنه قال : وهاديا ومبشرا ، أو من باب المبالغة ، كأنه لما حصل به الهدى والبشرى ، جعل نفس الهدى والبشرى . والألف في بشرى للتأنيث ، كهي في رجعى ، وهو مصدر . وقد تقدم الكلام على المعنى في قوله : ( وبشر الذين آمنوا ) في أوائل هذه السورة ، والمعنى : أنه وصف القرآن بتصديقه لما تقدمه من الكتب الإلهية ، وأنه هدى ، إذ فيه بيان ما وقع التكليف به من أعمال القلوب والجوارح ، وأنه بشرى لمن حصل له الهدى . فصار هذا الترتيب اللفظي في هذه الأحوال ، لكون مدلولاتها ترتبت ترتيبا وجوديا . فالأول : كونه مصدقا للكتب ، وذلك لأن الكتب كلها من ينبوع واحد . والثاني : أن الهداية حصلت به بعد نزوله على هذه الحال من التصديق . والثالث : أنه بشرى لمن حصلت له به الهداية . وقال الراغب : وهدى من الضلالة وبشرى بالجنة .
( للمؤمنين ) : خص الهدى والبشرى بالمؤمنين ؛ لأن غير المؤمنين لا يكون لهم هدى به ولا بشرى ، كما قال : ( وهو عليهم عمى ) ، ولأن المؤمنين هم المبشرون ، ( فبشر عباد ) ، ( يبشرهم ربهم برحمة منه ) . ودلت هذه الآية على تعظيم جبريل والتنويه بقدره ، حيث جعله الواسطة بينه تعالى وبين أشرف خلقه ، والمنزل بالكتاب الجامع للأوصاف المذكورة . ودلت على ذم اليهود حيث أبغضوا من كان بهذه المنزلة الرفيعة عند الله تعالى ، قالوا : وهذه الآية تعلقت بها الباطنية ، وقالوا : إن القرآن إلهام ، والحروف عبارة الرسول . ورد عليهم : بأنه معجزة ظاهرة بنظمه ، وأن الله سماه وحيا وكتابا وعربيا ، وأن جبريل نزل به ، والملهم لا يحتاج إلى جبريل .
( من كان عدوا لله ) : العداوة بين الله والعبد لا تكون حقيقة ، وعداوة العبد لله تعالى مجاز ، ومعناها : مخالفة الأمر ، وعداوة الله للعبد ، مجازاته على مخالفته .
( وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين ) . أكد بقوله : وملائكته ، أمر جبريل ، إذ اليهود قد أخبرت أنه عدوهم من الملائكة ، لكونه يأتي بالهلاك والعذاب ، فرد عليهم في الآية السابقة ، بأنه أتى بأصل الخيور كلها ، وهو القرآن الجامع لتلك الصفات الشريفة ، من موافقته لكتبهم ، وكونه هدى وبشرى ، فكانت تجب محبته . ورد عليهم في هذه الآية ، بأن قرنه باسمه تعالى مندرجا تحت عموم ملائكته ، ثم ثانيا تحت عموم رسله ؛ لأن الرسل تشمل الملائكة وغيرهم ممن أرسل من بني آدم ، ثم ثالثا بالتنصيص على ذكره مجردا مع من يدعون أنهم يحبونه ، وهو ميكال ، فصار مذكورا في هذه الآية ثلاث مرات ، كل ذلك رد على اليهود وذم لهم ، وتنويه بجبريل . ودلت الآية على أن الله تعالى عدو لمن عادى الله وملائكته ورسله وجبريل وميكال . ولا يدل ذلك على أن المراد من جمع عداوة الجميع فالله تعالى عدوه ، وإنما المعنى أن من عادى واحدا ممن ذكر ، فالله عدوه ، إذ معاداة واحد ممن ذكر معاداة للجميع . وقد أجمع المسلمون على أن . فقال بعض الناس : الواو هنا بمعنى أو ، وليست للجمع . وقال بعضهم : الواو للتفصيل ، ولا يراد أيضا أن يكون عدوا لجميع الملائكة ، ولا لجميع الرسل ، بل هذا من باب التعليق على الجنس بصورة الجمع ، كقولك : إن كلمت الرجال فأنت طالق ، لا يريد بذلك إن كلمت كل الرجال ، ولا أقل ما ينطلق عليه الجمع ، وإنما علق بالجنس ، وإن كان بصورة الجمع ، فلو كلمت رجلا واحدا طلقت ، فكذلك هذا الجمع في الملائكة والرسل . فالمعنى أن من عادى الله ، أو ملكا من ملائكته ، أو رسولا من رسله ، فالله [ ص: 322 ] عدو له . من أبغض رسولا أو ملكا فقد كفر
وقال الماتريدي : يحتمل أن يكون الافتتاح باسم الله ، على سبيل التعظيم لمن ذكر بعده ، كقوله تعالى : ( فأن لله خمسه ) ، وخص جبريل وميكال بالذكر تشريفا لهما وتفضيلا . وقد ذكرنا عن أستاذنا أبي جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير - قدس الله روحه - أنه كان يسمي لنا هذا النوع بالتجريد ، وهو أن يكون الشيء مندرجا تحت عموم ، ثم تفرده بالذكر ، وذلك لمعنى مختص به دون أفراد ذلك العام . فجبريل وميكال جعلا كأنهما من جنس آخر ، ونزل التغاير في الوصف كالتغاير في الجنس ، فعطف . وهذا النوع من العطف - أعني عطف الخاص على العام - على سبيل التفضيل ، هو من الأحكام التي انفردت بها الواو ، فلا يجوز ذلك في غيرها من حروف العطف . وقيل : خصا بالذكر ؛ لأن اليهود ذكروهما ، ونزلت الآية بسببهما . فلو لم يذكرا ، لكان لليهود تعلق بأن يقولوا : لم نعاد الله ؟ ولا جميع ملائكته ؟ وقيل : خصا بالذكر دفعا لإشكال : أن الموجب للكفر عداوة جميع الملائكة ، لا واحد منهم . فكأنه قيل : أو واحد منهم . وجاء هذا الترتيب في غاية الحسن ، فابتدئ بذكر الله ، ثم بذكر الوسائط التي بينه وبين الرسل ، ثم بذكر الوسائط التي بين الملائكة وبين المرسل إليهم . فهذا ترتيب بحسب الوحي . ولا يدل تقديم الملائكة في الذكر على تفضيلهم على رسل بني آدم ؛ لأن الترتيب الذي ذكرناه هو ترتيب بالنسبة إلى الوسائط ، لا بالنسبة إلى التفضيل . ويأتي قول : بأن الملائكة أشرف من الأنبياء - إن شاء الله - قالوا : واختصاص الزمخشري جبريل وميكال بالذكر يدل على كونهما أشرف من جميع الملائكة . وقالوا : جبريل أفضل من ميكال ؛ لأنه قدم في الذكر ، ولأنه ينزل بالوحي والعلم ، وهو مادة الأرواح . وميكال ينزل بالخصب والأمطار ، وهي مادة الأبدان ، وغذاء الأرواح أشرف من غذاء الأشباح ، انتهى . ويحتاج تفضيل جبريل على ميكائيل إلى نص جلي واضح ، والتقدم في الذكر لا يدل على التفضيل ، إذ يحتمل أن يكون ذلك من باب الترقي . ومن : في قوله : ( من كان عدوا ) شرطية . واختلف في الجواب فقيل : هو محذوف ، تقديره : فهو كافر ، وحذف لدلالة المعنى عليه . وقيل الجواب : ( فإن الله عدو للكافرين ) ، وأتى باسم الله ظاهرا ، ولم يأت بأنه عدو لاحتمال أن يفهم أن الضمير عائد على اسم الشرط فينقلب المعنى ، أو عائد على أقرب مذكور ، وهو ميكال ، فأظهر الاسم لزوال اللبس ، أو للتعظيم والتفخيم ؛ لأن العرب إذا فخمت شيئا كررته بالاسم الذي تقدم له ومنه : ( لينصرنه الله إن الله لعفو غفور ) ، وقول الشاعر :
لا أرى الموت يسبق الموت شيء
وهذه الجملة الواقعة خبرا للشرط ، تحتاج إلى رابط لجملة الجزاء باسم الشرط . والرابط هنا الاسم الظاهر وهو : الكافرين ، أوقع الظاهر موقع الضمير لتواخي أواخر الآي ، ولينص على علة العداوة ، وهي الكفر ، إذ من عادى من تقدم ذكره ، أو واحدا منهم ، فهو كافر . أو يراد بالكافرين العموم ، فيكون الرابط العموم ، إذ الكفر يكون بأنواع ، وهؤلاء الكفار بهذا الشيء الخاص فرد من أفراد العموم ، فيحصل الربط بذلك . وقال : عدو للكافرين ، أراد عدوا لهم ، فجاء بالظاهر ليدل على أن الله عاداهم لكفرهم ، وأن عداوة الملائكة كفر . وإذا كانت عداوة الأنبياء كفرا ، فما بال الملائكة ؟ وهم أشرف . والمعنى : من عاداهم عاداه الله وعاقبه أشد العقاب . انتهى كلامه . وهذا مذهب الزمخشري المعتزلة يذهبون إلى أن الملائكة أفضل من خواص بني آدم . ودل كلام على أن الظاهر وقع موقع الضمير ، وأنه لم يلحظ فيه العموم ، وقال الزمخشري ابن عطية : وجاءت العبارة بعموم الكافرين ؛ لأن عود الضمير على " من " يشكل ، سواء أفردته أو جمعته ، ولو لم يبال بالإشكال . وقلنا : المعنى يدل السامع على المقصد ، للزم تعيين قوم بعداوة الله لهم . ويحتمل أن الله قد علم أن بعضهم يؤمن ، فلا ينبغي أن يطلق عليه [ ص: 323 ] عداوة الله للمآل . وروي أن عمر نطق بهذه الآية مجاوبا لبعض اليهود في قوله : ذلك عدونا - يعني جبريل - فنزلت على لسان عمر . قال ابن عطية : وهذا الخبر ضعيف .