وهذه أقوال كثيرة في سبب نزول هذه الآية ، وظاهرها التعارض ، ولا ينبغي أن يقبل منها إلا ما صح ، وقد شحن المفسرون كتبهم بنقلها . وقد صنف الواحدي في ذلك كتابا قلما يصح فيه شيء ، وكان ينبغي أن لا يشتغل بنقل ذلك إلا ما صح . والذي يظهر أن انتظام هذه الآية بما قبلها هو : أنه لما ذكر منع المساجد من ذكر الله والسعي في تخريبها ، نبه على أن ذلك لا يمنع من أداء الصلوات ، ولا من ذكر الله ، إذ المشرق والمغرب لله تعالى ، فأي جهة أديتم فيها العبادة فهي لله يثيب على ذلك ، ولا يختص مكان التأدية بالمسجد . والمعنى : ولله بلاد المشرق والمغرب وما بينهما . فيكون على حذف مضاف ، أو يكون المعنى : ولله المشرق والمغرب وما بينهما ، فيكون على حذف معطوف ، أو اقتصر على ذكرهما تشريفا لهما ، حيث أضيفا لله ، وإن كانت الأشياء كلها لله ، كما شرف البيت الحرام وغيره من الأماكن بالإضافة إليه تعالى . وهذا كله على تقدير أن يكون المشرق والمغرب أسمى مكان .
وذهب بعض المفسرين إلى أنهما اسما مصدر ، والمعنى أن لله تولي إشراق الشمس من مشرقها وإغرابها من مغربها ، فيكونان - إذ ذاك - بمعنى الشروق والغروب . ويبعد هذا القول قوله بعد : ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) . وأفرد المشرق والمغرب باعتبار الناحية ، أو باعتبار المصدر الواقع في الناحية . وأما الجمع فباعتبار اختلاف المغارب والمطالع كل يوم . وأما التثنية فباعتبار مشرقي الشتاء والصيف ومغربيهما . ومعنى التولية : الاستقبال بالوجوه . وقيل : معناها الاستدبار من قولك : وليت عن فلان إذا استدبرته ، فيكون التقدير : فأي جهة وليتم عنها واستقبلتم غيرها فثم وجه الله . وقيل : ليست في الصلاة ، بل هو خطاب للذين يخربون المساجد ، أي أينما تولوا هاربين عني فإني ألحظهم . ويقويه قراءة الحسن : ( فأينما تولوا ) ، جعله للغائب ، فجرى على قوله : ( لهم في الدنيا خزي ) ، وعلى قوله : ( وقالوا اتخذ الله ولدا ) ، فجرت الضمائر على نسق واحد . قال : ففي أي مكان فعلتم التولية ، يعني تولية وجوهكم شطر القبلة بدليل قوله تعالى : ( الزمخشري فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) ، [ ص: 361 ] انتهى . فقيد التولية التي هي مطلقة بالتولية التي هي شطر القبلة ، وهو قول حسن . وقد ذكر بعض المفسرين في قوله تعالى : ( ولله المشرق والمغرب ) مسائل موضوعها علم الفقه ، منها : من صلى في ظلمة مجتهدا إلى جهة ، ثم تبين أنه صلى لغير القبلة ، ومسألة من صلى على ظهر الدابة فرضا لمرض أو نفلا ، ومسألة الصلاة على الميت الغائب ، إذا قلنا نزلت في ، وشحن كتابه بذكر هذه المسائل ، وذكر الخلاف فيها ، وبعض دلائلها وموضوعها ، كما ذكرناه هو علم الفقه . النجاشي
( فثم وجه الله ) ، هذا جواب الشرط ، وهي جملة ابتدائية ، فقيل : معناه فثم قبلة الله ، فيكون الوجه بمعنى الجهة ، وأضيف ذلك إلى الله حيث أمر باستقبالها ، فهي الجهة التي فيها رضا الله تعالى ، قاله الحسن ومجاهد وقتادة ومقاتل . وقيل : الوجه هنا صلة ، والمعنى فثم الله أي علمه وحكمه . وروي عن ابن عباس ومقاتل : أو عبر عن الذات بالوجه ، كقوله تعالى : ( ويبقى وجه ربك ) ، ( كل شيء هالك إلا وجهه ) ، وقيل : المعنى العمل لله ، قاله الفراء ، قال :
أستغفر الله ذنبا لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل
وقيل : يحتمل أن يراد بالوجه هنا : الجاه ، كما يقال : فلان وجه القوم ، أي موضع شرفهم ، ولفلان وجه عند الناس : أي جاه وشرف . والتقدير : فثم جلال الله وعظمته ، قاله أبو منصور في المقنع . وحيث جاء الوجه مضافا إلى الله تعالى ، فله محمل في لسان العرب ، إذ هو لفظ يطلق على معان ، ويستحيل أن يحمل على العضو ، وإن كان ذلك أشهر فيه . وقد ذهب بعض الناس إلى أن تلك صفة ثابتة لله بالسمع ، زائدة على ما توجبه العقول من صفات القديم تعالى . وضعف أبو العالية وغيره هذا القول ؛ لأن فيه الجزم بإثبات صفة لله تعالى بلفظ محتمل ، وهي صفة لا يدرى ما هي ، ولا يعقل معناها في اللسان العربي ، فوجب اطراح هذا القول والاعتماد على ما له محمل في لسان العرب . إذا كان للفظ دلالة على التجسيم فنحمله إما على ما يسوغ فيه من الحقيقة التي يصح نسبتها إلى الله تعالى إن كان اللفظ مشتركا ، أو من المجاز إن كان اللفظ غير مشترك . والمجاز في كلام العرب أكثر من رمل يبرين ونهر فلسطين .
فالوقوف مع ظاهر اللفظ الدال على التجسيم غباوة وجهل بلسان العرب وأنحائها ومتصرفاتها في كلامها ، وحجج العقول التي مرجع حمل الألفاظ المشكلة إليها . ونعوذ بالله أن نكون كالكرامية ومن سلك مسلكهم في إثبات التجسيم ونسبة الأعضاء لله - تعالى الله عما يقول المفترون علوا كبيرا - وفي قوله : ( تولوا فثم وجه الله ) رد على من يقول : إنه في حيز وجهة ؛ لأنه لما خير في استقبال جميع الجهات دل على أنه ليس في جهة ولا حيز ، ولو كان في حيز لكان استقباله والتوجه إليه أحق من جميع الأماكن . فحيث لم يخصص مكانا ، علمنا أنه لا في جهة ولا حيز ، بل جميع الجهات في ملكه وتحت ملكه ، فأي جهة توجهنا إليه فيها على وجه الخضوع كنا معظمين له ممتثلين لأمره .