اختلف في لقمان ، أكان حرا أم عبدا ؟ فإذا قلنا : كان حرا ، فقيل : هو ابن باعورا . قال وهب : ابن أخت أيوب عليه السلام . وقال مقاتل : ابن خالته . وقيل : كان من أولاد آزر ، وعاش ألف سنة ، وأدرك داود عليه السلام ، وأخذ منه العلم ، وكان يفتي قبل مبعث داود ، فلما بعث داود ، قطع الفتوى ، فقيل له : لم ؟ فقال : ألا أكتفي إذا كفيت ؟ وكان قاضيا في بني إسرائيل . وقال : كان قاضيا في الواقدي بني إسرائيل ، وزمانه ما بين عيسى ومحمد ، عليهما السلام ، والأكثرون على أنه لم يكن نبيا . وقال عكرمة ، : كان نبيا . وإذا قلنا : كان عبدا ، اختلف في جنسه ، فقال والشعبي ، ابن عباس ، وابن المسيب ومجاهد : كان نوبيا مشقق الرجلين ذا مشافر . وقال الفراء وغيره : كان حبشيا مجدوع الأنف ذا مشفر . واختلف فيما كان يعانيه من الأشغال ، فقال خالد بن الربيع : كان نجارا ، وفي معاني : كان نجادا ، بالدال . وقال الزجاج : كان خياطا . وقال ابن المسيب : كان راعيا . وقيل : كان يحتطب لمولاه كل يوم حزمة . وهذا الاضطراب في كونه حرا أو عبدا ، وفي جنسه ، وفيما كان يعانيه ، يوجب أن لا يكتب شيء من ذلك ، ولا ينقل ، لكن المفسرون مولعون بنقل المضطربات حشوا وتكثيرا ، والصواب تركه . ابن عباس
وحكمة لقمان مأثورة كثيرة ، منها : قيل له : أي الناس شر ؟ قال : الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئا . وقال له داود ، عليه السلام ، يوما : كيف أصبحت ؟ قال : أصبحت في يد غيري ، فتفكر داود فيه ، فصعق صعقة . وقال : قرأت في حكم وهب بن منبه لقمان أكثر من عشرة آلاف . و ( الحكمة ) المنطق الذي يتعظ به ويتنبه به ، ويتناقله الناس لذلك . ( أن اشكر ) قال : أن هي المفسرة ; لأن إيتاء الحكمة في معنى القول ، وقد نبه سبحانه على أن الحكمة الأصلية والعلم الحقيقي هو العمل بهما ، أو عبادة الله والشكر له ، حيث فسر إيتاء الحكمة بالبعث على الشك . وقال الزمخشري : المعنى : ( الزجاج ولقد آتينا لقمان الحكمة ) لأن يشكر الله ، فجعلها مصدرية ، لا تفسيرية . وحكى : كتبت إليه بأن قم . ( سيبويه فإنما يشكر لنفسه ) أي : ثواب الشكر لا يحصل إلا للشاكرين ، إذ هو تعالى غني عن الشكر ، فشكر الشاكر لا ينفعه ، وكفر من كفر لا يضره . و ( حميد ) مستحق الحمد لذاته وصفاته .
( وإذ قال ) أي : واذكر إذ ، وقيل : يحتمل أن يكون التقدير : وآتيناه الحكمة ، إذ قال ، واختصر لدلالة المتقدم عليه . وابنه بار ، أي : أو أنعم ، أو اشكر ، أو شاكر ، أقوال . ( وهو يعظه ) جملة حالية . قيل : كان ابنه وامرأته كافرين ، فما زال يعظهما حتى أسلما . والظاهر أن قوله : ( إن الشرك لظلم عظيم ) من كلام لقمان . وقيل : هو خبر من الله ، منقطع عن كلام لقمان ، متصل به في تأكيد المعنى ; وفي صحيح مسلم ما ظاهره أنه من كلام لقمان . وقرأ البزي : " يا بني " بالسكون ، و " يابني إنها " بكسر الياء ، و " يابني أقم " بفتحها . وقيل : بالسكون في الأولى والثانية ، والكسر في الوسطى ; وحفص والمفضل عن عاصم : بالفتح في الثلاثة على تقدير : يا بني ، والاجتزاء بالفتحة عن الألف . وقرأ باقي السبعة : بالكسر في الثلاثة .
( ووصينا الإنسان بوالديه ) لما بين لقمان لابنه أن الشرك ظلم ونهاه عنه ، كان ذلك حثا على طاعة الله ، ثم بين أن الطاعة تكون للأبوين ، وبين السبب في ذلك ، فهو من كلام لقمان مما وصى به ابنه ، أخبر الله عنه بذلك . وقيل : هو من كلام الله ، قاله للقمان ، أي : قلنا له اشكر . وقلنا له : ( ووصينا ) . وقيل : هذه [ ص: 187 ] الآية اعتراض بين أثناء وصيته للقمان ، وفيها تشديد وتوكيد لاتباع الولد والده ، وامتثال أمره في طاعة الله تعالى . وقال القرطبي : والصحيح أن هذه الآية وآية العنكبوت نزلتا في ، وعليه جماعة من المفسرين . ولما خص الأم بالمشقات من الحمل والنفاس والرضاع والتربية ، نبه على السبب الموجب للإيصاء ، ولذلك جاء في الحديث الأمر ببر الأم ثلاث مرات ، ثم ذكر الأب ، فجعل له مرة الربع من المبرة . سعد بن أبي وقاص
( وهنا على وهن ) قال : شدة بعد شدة ، وخلقا بعد خلق . وقال ابن عباس الضحاك : ضعفا بعد ضعف . وقال قتادة : جهدا على جهد ، يعني : ضعف الحمل ، وضعف الطلق ، وضعف النفاس ، وانتصب على هذه الأقوال على الحال . وقيل : ( وهنا على وهن ) نطفة ثم علقة ، إلى آخر النشأة ، فعلى هذا يكون حالا من الضمير المنصوب في حملته ، وهو الولد . وقرأ عيسى الثقفي ، وأبو عمرو في رواية : " وهنا على وهن " ، بفتح الهاء فيهما ، فاحتمل أن يكون كالشعر والشعر ، واحتمل أن يكون مصدر وهن بكسر الهاء يوهن وهنا ، بفتحها في المصدر قياسا . وقرأ الجمهور : بسكون الهاء فيهما . وقرءوا : ( وفصاله ) . وقرأ الحسن ، وأبو رجاء ، وقتادة ، والجحدري ، ويعقوب : " وفصله " ، ومعناه الفطام ، أي : في تمام عامين ، عبر عنه بنهايته ، وأجمعوا على اعتبار العامين في مدة الرضاع في باب الأحكام والنفقات ، وأما في تحريم اللبن في الرضاع فخلاف مذكور في الفقه . و ( أن اشكر ) في موضع نصب ، على قول . وقال الزجاج النحاس : الأجود أن تكون مفسرة . ( لي ) أي : على نعمة الإيمان . ( ولوالديك ) على نعمة التربية ( إلي المصير ) توعد أثناء الوصية . ( وإن جاهداك ) إلى : ( فلا تطعهما ) تقدم الكلام عليه في العنكبوت ، إلا أن هنا على ، وهناك : لتشرك ، بلام العلة . وانتصب ( معروفا ) على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي : صحابا ، أو مصاحبا معروفا وعشرة جميلة ، وهو إطعامهما وكسوتهما وعدم جفائهما وانتهارهما ، وعيادتهما إذا مرضا ، ومواراتهما إذا ماتا . ( واتبع سبيل من أناب إلي ) أي : رجع إلى الله ، وهو سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم لا سبيلهما . ( ثم إلي مرجعكم ) أي : مرجعك ومرجعهما ، فأجازي كلا منكم بعمله .
ولما نهى لقمان ابنه عن الشرك ، نبهه على قدرة الله ، وأنه لا يمكن أن يتأخر عن مقدوره شيء ; فقال : ( يابني إنها إن تك ) والظاهر أن الضمير في ( إنها ) ضمير القصة . وقرأ نافع : " مثقال " ، بالرفع على ( إن تك ) تامة ، وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر ، وأخبر عن مثقال ، وهو مذكر ، إخبار المؤنث ، لإضافته إلى مؤنث ، وكأنه قال : إن تك زنة حبة ; وباقي السبعة : بالنصب على ( إن تك ) ناقصة ، واسمها ضمير يفهم من سياق الكلام تقديره : هي ، أي : التي سألت عنها . وكان فيما روي قد سأل لقمان ابنه : أرأيت الحبة تقع في مغاص البحر أيعلمها الله ؟ فيكون الضمير ضمير جوهر لا ضمير عرض ، ويؤيده قوله : ( إن تك مثقال حبة ) . وقرأ : " فتكن " ، بكسر الكاف وشد النون وفتحها ; وقراءة عبد الكريم الجزري محمد بن أبي فجة البعلبكي : " فتكن " ، بضم التاء وفتح الكاف والنون مشددة . وقرأ قتادة : " فتكن " ، بفتح التاء وكسر الكاف وسكون النون ، من وكن يكن ، ورويت هذه القراءة عن أيضا : أي : تستقر ، ويجوز أن يكون الضمير ضمير عرض ، أي : تلك الفعلة من الطاعة أو المعصية . وعلى من قرأ بنصب مثقال ، يجوز أن يكون الضمير في " أنها " ضمير الفعلة ، لا ضمير القصة . قال عبد الكريم الجزري : فمن نصب ، يعني " مثقال " ، كان الضمير للهيئة من الإساءة والإحسان ، أي : كانت مثلا في الصغر والقماءة ، كحبة الخردل ، فكانت مع صغرها في أخفى موضع وأحرزه ، كجوف الصخرة ، أو حيث كانت من العالم العلوي أو السفلي . الزمخشري
( يأت بها الله ) يوم القيامة ، فيحاسب عليها . ( إن الله لطيف ) يتوصل علمه إلى كل خفي . ( خبير ) عالم بكنهه . وعن قتادة : لطيف باستخراجها ، خبير بمستقرها . وبدأ له بما يتعلق به أولا ، وهو كينونة الشيء . ( في صخرة ) وهو ما صلب من [ ص: 188 ] الحجر وعسر إخراجه منها ، ثم أتبعه بالعالم العلوي ، وهو أغرب للسامع ، ثم أتبعه بما يكون مقر الأشياء للشاهد ، وهو الأرض . وعن ابن عباس والسدي ، أن هذه الصخرة هي التي عليها الأرض . قال : هي تحت الأرضين السبع ، يكتب فيها أعمال الفجار . قال ابن عباس ابن عطية : قيل : أراد الصخرة التي عليها الأرض والحوت والماء ، وهي على ظهر ملك . وقيل : هي صخرة في الريح ، وهذا كله ضعيف لا يثبت سنده ، وإنما معنى الكلام : المبالغة والانتهاء في التفهم ، أي : إن قدرته تنال ما يكون في تضاعيف صخرة ، وما يكون في السماء والأرض . انتهى . قيل : وخفاء الشيء يعرف بصغره عادة ، ويبعده عن الرائي . وبكونه في ظلمة وباحتجابه ، ففي صخرة إشارة إلى الحجاب ، وفي السماوات إشارة إلى البعد ، وفي الأرض إشارة إلى الظلمة ، فإن جوف الأرض أظلم الأماكن . وفي قوله : ( يأت بها الله ) دلالة على العلم والقدرة ، كأنه قال : يحيط بها علمه وقدرته .
ولما نهاه أولا عن الشرك ، وأخبره ثانيا بعلمه تعالى وباهر قدرته ، أمره بما يتوسل به إلى الله من الطاعات ، فبدأ بأشرفها ، وهو الصلاة ، حيث يتوجه إليه بها ، ثم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ثم بالصبر على ما يصيبه من المحن جميعها ، أو على ما يصيبه بسبب الأمر بالمعروف ممن يبعثه عليه ، والنهي عن المنكر ممن ينكره عليه ، فكثيرا ما يؤذى فاعل ذلك ، وهذا إنما يريد به بعد أن يمثل هو في نفسه فيأتي بالمعروف . إن ذلك إشارة إلى ما تقدم مما نهاه عنه وأمره به . والعزم مصدر ، فاحتمل أن يراد به المفعول ، أي : من معزوم الأمور ، واحتمل أن يراد به الفاعل ، أي : عازم الأمور ، كقوله : ( فإذا عزم الأمر ) . وقال : مما عزمه الله وأمر به ; وقيل : من مكارم الأخلاق وعزائم أهل الحزم ، السالكين طريق النجاة . والظاهر أنه يريد من لازمات الأمور الواجبة ; لأن الإشارة بذلك إلى جميع ما أمر به ونهى عنه . وهذه الطاعات يدل إيصاء ابن جريج لقمان على أنها كانت مأمورا بها في سائر الملل . والعزم : ضبط الأمر ومراعاة إصلاحه . وقال مؤرج : العزم : الحزم ، بلغة هذيل . والحزم والعزم أصلان ، وما قاله من أن العين قلبت حاء ليس بشيء ، لاطراد تصاريف كل واحد من اللفظين ، فليس أحدهما أصلا للآخر . المبرد
( ولا تصعر خدك للناس ) أي : لا تولهم شق وجهك ، كفعل المتكبر ، وأقبل على الناس بوجهك من غير كبر ولا إعجاب ، قاله والجماعة . قال ابن عباس ابن خويز منداد : نهى أن يذل نفسه من غير حاجة ، وأورد قريبا من هذا ابن عطية احتمالا فقال : ويحتمل أن يريد : ولا سؤالا ولا ضراعة بالفقر . قال : والأول ، يعني تأويل والجماعة ، أظهر لدلالة ذكر الاختيال والعجز بعده . وقال ابن عباس مجاهد : ( ولا تصعر ) أراد به الإعراض ، كهجره بسب أخيه . وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وعاصم ، : " تصعر " ، بفتح الصاد وشد العين ; وباقي السبعة : بألف ; وزيد بن علي والجحدري : " يصعر " مضارع أصعر . ( ولا تمش في الأرض مرحا ) تقدم الكلام على هذه الجملة في سورة سبحان . ( إن الله لا يحب كل مختال فخور ) تقدم الكلام في النساء على نظير هذه الجملة في قوله : ( إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ) . ولما وصى ابنه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذ صار هو في نفسه ممتثلا للمعروف مزدجرا عن المنكر ، أمر به غيره وناهيا عنه غيره ، نهاه عن التكبر على الناس والإعجاب والمشي مرحا ، وأخبره أنه تعالى لا يحب المختال ، وهو المتكبر ، ولا الفخور . قال مجاهد : وهو الذي يعدد ما أعطى ، ولا يشكر الله . ويدخل في الفخور : الفخر بالأنساب .
( واقصد في مشيك واغضض من صوتك ) ولما نهاه عن الخلق الذميم ، أمره بالخلق الكريم ، وهو القصد في المشي ، بحيث لا يبطئ ، كما يفعل المتنامسون والمتعاجبون ، يتباطئون في نقل خطواتهم المتنامسين للرياء والمتعاجب للترفع ، ولا يسرع ، كما يفعل الخرق المتهور . ونظر إلى أبو جعفر المنصور أبي عمرو بن عبيد فقال : كلكم يمشي رويدا ، كلكم يطلب صيدا ، غير . [ ص: 189 ] وقال عمرو بن عبيد : كانوا ينهون عن خبب ابن مسعود اليهود ودبيب النصارى ، ولكن مشيا بين ذلك . وقيل معناه : اجعل بصرك موضع قدمك . وقرئ : " وأقصد " ، بهمزة القطع : أي : سدد في مشيك ; من أقصده الرامي إذا سدد سهمه نحو الرمية ، ونسبها ابن خالويه للحجاز . والغض من الصوت : التنقيص من رفعه وجهارته ، والغض : رد طموح الشيء ، كالصوت والنظر والزمام . وكانت العرب تفتخر بجهارة الصوت ، وتمدح به في الجاهلية ، ومنه قول الشاعر :
جهير الكلام جهير العطاس جهير الرواء جهير النعم
ويخطو على الأين خطو الظليم ويعلو الرجال بخلق عمم
وغض الصوت أوفر للمتكلم ، وأبسط لنفس السامع وفهمه . و ( أنكر ) : " أفعل " إن بني من فعل المفعول ، كقولهم : أشغل من ذات النحيين ; وبناؤه من ذلك شاذ . والأصوات : أصوات الحيوان كلها . وأنكر جماعة للمذام اللاحقة للأصوات ، والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة . شبه الرافعون أصواتهم بالحمير ، وأصواتهم بالنهاق ، ولم يؤت بأداة التشبيه ، بل أخرج مخرج الاستعارة ، وهذه أقصى مبالغة في الذم والتنفير عن رفع الصوت . ولما كان صوت الحمير متماثلا في نفسه ، لا يكاد يختلف في الفظاعة ، أفرد ; لأنه في الأصل مصدر . وأما أصوات الحمير فغير مختلفة جدا ، جمعت في قوله : ( إن أنكر الأصوات ) فالمعنى : أنكر أصوات الحمير ، بالجمع بغير لام . وقال الحسن : كان المشركون يتفاخرون برفع الأصوات ، فرد عليهم بأنه لو كان خيرا ، فضل به الحمير . والظاهر أن قوله : ( إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ) من كلام لقمان لابنه ، تنفير له عن رفع الصوت ، ومماثلة الحمير في ذلك . قيل : هو من كلام الله تعالى ، وفرغت وصية لقمان في قوله : ( واغضض من صوتك ) ردا لله به على المشركين الذين كانوا يتفاخرون بجهارة الصوت ، ورفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوة ، وربما يخرج الغشاء الذي هو داخل الأذن . وقيل : ( واقصد في مشيك ) إشارة إلى الأفعال ( واغضض من صوتك ) إشارة إلى الأقوال ، فنبه على التوسط في الأفعال ، وعلى الإقلال من فضول الكلام .