[ ص: 250 ] كان دأب الجاهلية أن تخرج الحرة والأمة مكشوفتي الوجه في درع وخمار ، وكان الزناة يتعرضون إذا خرجن بالليل لقضاء حوائجهن في النخيل والغيطان للإماء ، وربما تعرضوا للحرة بعلة الأمة ، يقولون : حسبناها أمة ، فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء ، بلبس الأردية والملاحف ، وستر الرءوس والوجوه ، ليحتشمن ويهبن ، فلا يطمع فيهن . وروي أنه كان في المدينة قوم يجلسون على الصعدات لرؤية النساء ومعارضتهن ومراودتهن ، فنزلت .
قيل : والجلابيب : الأردية التي تستر من فوق إلى أسفل ، وقال ابن جبير : المقانع ; وقيل : الملاحف ، وقيل : الجلباب : كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها ، وقيل : كل ما تستتر به من كساء أو غيره . قال أبو زيد :
تجلببت من سواد الليل جلبابا
وقيل : الجلباب أكبر من الخمار . وقال عكرمة : تلقي جانب الجلباب على غيرها ولا يرى . وقال حين سئل عن ذلك ، فقال : أن تضع رداءها فوق الحاجب ، ثم تديره حتى تضعه على أنفها . وقال عبيدة السلماني : تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين . انتهى . وكذا عادة بلاد الأندلس ، لا يظهر من المرأة إلا عينها الواحدة . وقال السدي : يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهن ، أراد بالانضمام معنى الإدناء . وقال الكسائي ابن عباس وقتادة : وذلك أن تلويه فوق الجبين وتشده ، ثم تعطفه على الأنف ، وإن ظهرت عيناها ، لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه . والظاهر أن قوله : ( ونساء المؤمنين ) يشمل الحرائر والإماء ، والفتنة بالإماء أكثر ، لكثرة تصرفهن بخلاف الحرائر ، فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح . و " من " في : ( من جلابيبهن ) للتبعيض ، و ( عليهن ) شامل لجميع أجسادهن ، أو ( عليهن ) على وجوههن ; لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه . ( ذلك أدنى أن يعرفن ) لتسترهن بالعفة ، فلا يتعرض لهن ، ولا يلقين بما يكرهن ; لأن المرأة إذا كانت في غاية التستر والانضمام لم يقدم عليها بخلاف المتبرجة ، فإنها مطموع فيها . ( وكان الله غفورا رحيما ) تأنيس للنساء في ترك الاستتار قبل أن يؤمرن بذلك .
ولما ذكر حال المشرك الذي يؤذي الله ورسوله ، والمجاهر الذي يؤذي المؤمنين ، ذكر حال المسر الذي يؤذي الله ورسوله ، ويظهر الحق ويضمر النفاق . ولما كان المؤذون ثلاثة باعتبار إذايتهم لله ولرسوله وللمؤمنين ، كان المشركون ثلاثة : منافق ، ومن في قلبه مرض ، ومرجف . فالمنافق يؤذي سرا ، والثاني يؤذي المؤمن باتباع نسائه ، والثالث يرجف بالرسول ، يقول : غلب ، سيخرج من المدينة ، سيؤخذ ، هزمت سراياه . وظاهر العطف التغاير بالشخص ، فيكون المعنى : لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدهم ، والفسقة عن فجورهم ، والمرجفون عما يقولون [ ص: 251 ] من أخبار السوء ويشيعونه ، ويجوز أن يكون التغاير بالوصف ، فيكون واحدا بالشخص ثلاثة بالوصف . كما جاء : إن المسلمين والمسلمات ، فذكر أوصافا عشرة ، والموصوف بها واحد ، ونص على هذين الوصفين من المنافقين لشدة ضررهما على المؤمنين . قال عكرمة : ( الذين في قلوبهم مرض ) هو الغزل وحب الزنى ، ومنه : ( فيطمع الذي في قلبه مرض ) . وقال : المرض : النفاق ، ومن في قلوبهم مرض . وقال السدي : هم الذين آذوا ابن عباس عمر . وقال الكلبي : من آذى المسلمين . وقال : ( المرجفون ) ملتمسو الفتن . وقال ابن عباس قتادة : الذين يؤذون قلوب المؤمنين بإيهام القتل والهزيمة . ( لنغرينك بهم ) أي : لنسلطنك عليهم ، قاله . وقال ابن عباس قتادة : لنحرسنك بهم .
( ثم لا يجاورونك فيها ) أي في المدينة ، و ( ثم لا يجاورونك ) معطوف على ( لنغرينك ) ولم يكن العطف بالفاء ; لأنه لم يقصد أنه متسبب عن الإغراء ، بل كونه جوابا للقسم أبلغ . وكان العطف بـ : ثم ; لأن الجلاء عن الوطن كان أعظم عليهم من جميع ما أصيبوا به ، فتراخت حالة الجلاء عن حالة الإغراء . ( إلا قليلا ) أي : جوارا قليلا ، أو زمانا قليلا ، أو عددا قليلا ، وهذا الأخير استثناء من المنطوق ، وهو ضمير الرفع في ( يجاورونك ) أو ينتصب قليلا على الحال ، أي : إلا قليلين ، والأول استثناء من المصدر الدال عليه ( يجاورونك ) والثاني من الزمان الدال عليه ( يجاورونك ) والمعنى : أنهم يضطرون إلى طلب الجلاء عن المدينة خوف القتل . وانتصب ( ملعونين ) على الذم ، قاله . وأجاز الطبري ابن عطية أن يكون بدلا من ( قليلا ) قال : هو من إقلاء الذي قدرناه ; وأجاز هو أيضا أن يكون حالا من الضمير في ( يجاورونك ) قال : كأنه قال : ينتفون من المدينة معلونين ، فلا يقدر ( لا يجاورونك ) فقدر " ينتفون " حسن هذا . انتهى . وقال الزمخشري والحوفي وتبعهما أبو البقاء : يجوز أن يكون حالا من الضمير في ( لا يجاورونك ) كما قال ابن عطية . قال : وهذا نصه ملعونين ، نصب على الشتم أو الحال أي : لا يجاورونك إلا ملعونين . دخل حرف الاستثناء على الظرف والحال معا ، كما مر في قول : ( الزمخشري إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ) ولا يصح أن ينتصب من أخذوا لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها . انتهى . وتقدم الكلام معه في مجيء الحال مما قبل إلا مذكورة بعدما استثنى بإلا ، فيكون الاستثناء منصبا عليهما ، وأن جمهور البصريين منعوا من ذلك . وأما تجويز ابن عطية أن يكون بدلا فالبدل بالمشتق قليل . وأما قول : لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها فليس هذا مجمعا عليه ; لأن ما بعد كلمة الشرط شيئان : فعل الشرط والجواب ، فأما فعل الشرط فأجاز الزمخشري تقديم معموله على الكلمة ، أجاز : الكسائي زيد أن يضرب اضربه ، وأما الجواب فقد أجاز أيضا تقديم معموله عليه نحو : إن يقم زيد عمرا يضرب . وقد حكي عن بعض النحويين أنه قال المعنى : ( أينما ثقفوا ) أخذوا ملعونين ، والصحيح أن ملعونين صفة لقليل ، أي : إلا قليلين ملعونين ، ويكون قليلا مستثنى من الواو في ( لا يجاورونك ) ، والجملة الشرطية صفة أيضا أي : مقهورين مغلوبا عليهم . ومعنى ( ثقفوا ) حصروا وظفر بهم ، ومعنى ( أخذوا ) أسروا ، والأخيذ : الأسير . وقرأ الجمهور : ( قتلوا ) بتشديد التاء . وفرقة : بتخفيفها فيكون ( تقتيلا ) مصدرا على غير قياس المصدر .
والظاهر أن المنافقين انتهوا عما كانوا يؤذون به الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، وتستر جميعهم ، وكفوا خوفا من أن يقع بهم ما وقع القسم عليه ، وهو الإغراء والجلاء والأخذ والقتل . وقيل : لم يمتثلوا للانتهاء جملة ، ولا نفذ عليهم الوعيد كاملا . ألا ترى إلى إخراجهم من المسجد ، ونهيه عن الصلاة عليهم ، وما نزل فيهم في سورة براءة ؟ وأبعد من ذهب إلى أنه لم ينته هؤلاء الأصناف ، ولم ينفذ الله الوعيد عليهم ففيه [ ص: 252 ] دليل على بطلان القول بإنفاذ الوعيد في الآخرة ، ويكون هذا الوعيد مفروضا ومشروطا بالمشيئة .
( سنة الله ) مصدر مؤكد أي : سن الله في الذين ينافقون الأنبياء أن يقتلوا حيثما ظفر بهم . وعن مقاتل : كما قتل أهل بدر وأسروا ، فالذين خلوا يشمل أتباع الأنبياء الذين نافقوا ، ومن قتل يوم بدر . ( يسألك الناس ) أي : المشركون ، عن وقت قيام الساعة استعجالا على سبيل الهزء ، واليهود على سبيل الامتحان ، إذ كانت معمى وقتها في التوراة ، فنزلت الآية بأن يرد العلم إلى الله ، إذ لم يطلع عليها ملكا ولا نبيا . ولما ذكر حالهم في الدنيا أنهم ملعونون مهانون مقتولون بين حالهم في الآخرة . ( وما يدريك ) ما استفهام في موضع رفع بالابتداء أي : وأي شيء يدريك بها ؟ ومعناه النفي أي : ما يدريك بها أحد . ( لعل الساعة تكون قريبا ) بين قرب الساعة ، وفي ذلك تسلية للممتحن ، وتهديد للمستعجل . وانتصب ( قريبا ) على الظرف أي : في زمان قريب ، إذ استعماله ظرفا كثير ، ويستعمل أيضا غير ظرف ، تقول : إن قريبا منك زيدا ، فجاز أن يكون التقدير : شيئا قريبا ، أو تكون الساعة بمعنى الوقت ، فذكر ( قريبا ) على المعنى . أو يكون التقدير : لعل قيام الساعة ، فلوحظ الساعة في ( تكون ) فأنث ، ولوحظ المضاف المحذوف وهو " قيام " في ( قريبا ) فذكر .
( يوم تقلب وجوههم في النار ) يجوز أن ينتصب ( يوم ) بقوله : ( لا يجدون ) ويكون ( يقولون ) استئناف إخبار عنهم ، أو تم الكلام عند قولهم : ( ولا نصيرا ) . وينتصب ( يوم ) بقوله : ( يقولون ) أو بمحذوف أي : اذكر و ( يقولون ) حال . وقرأ الجمهور : ( تقلب ) مبنيا للمفعول . والحسن وعيسى وأبو جعفر الرؤاسي : بفتح التاء ، أي : تتقلب وحكاها ابن عطية عن أبي حيوة . وقال ابن خالويه عن أبي حيوة : " نقلب " بالنون ، ( وجوههم ) بالنصب . وحكاها ابن عطية عن أبي حيوة أيضا وخارجة . زاد صاحب اللوامح أنها قراءة عيسى البصري . وقرأ عيسى الكوفي كذلك إلا أن بدل النون تاء ، وفاعل ( تقلب ) ضمير يعود على ( سعيرا ) وعلى جهنم أسند إليهما اتساعا . وقراءة : تتقلب بتاءين ، وتقليب الوجوه في النار : تحركها في الجهات ، أو تغيرها عن هيئاتها ، أو إلقاؤها في النار منكوسة . والظاهر هو الأول ، والوجه أشرف ما في الإنسان ، فإذا قلب في النار كان تقليب ما سواه أولى . وعبر بالوجه عن الجملة ، وتمنيهم حيث لا ينفع ، وتشكيهم من كبرائهم لا يجدي . وقرأ الجمهور : ( ابن أبي عبلة سادتنا ) جمعا على وزن فعلات ، أصله سودة ، وهو شاذ في جمع فيعل ، فإن جعلت جمع سائد قرب من القياس . وقرأ الحسن ، وأبو رجاء ، وقتادة ، والسلمي ، وابن عامر ، والعامة في الجامع بالبصرة : " ساداتنا " على الجمع بالألف والتاء ، وهو لا ينقاس ، كسوقات ومواليات بني هاشم . وسادتهم : رؤساء الكفر الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم . قال قتادة : سادتنا : رؤساؤنا . وقال : أشرافنا . وقال طاوس أبو أسامة : أمراؤنا وقال الشاعر :
تسلسل قوم سادة ثم زادة يبدون أهل الجمع يوم المحصب
( مما قالوا ) أي : من وصم ما قالوا ، و " ما " موصولة أو مصدرية . وقرأ الجمهور : ( وكان عند الله ) الظرف معمول لـ : ( وجيها ) أي : ذا وجه ومنزلة عند الله تعالى ، تميط عنه الأذى وتدفع التهم . وقرأ عبد الله ، ، والأعمش وأبو حيوة : عبد من العبودية ، لله جر بلام الجر ، و ( عبدا ) خبر كان ، و ( وجيها ) صفة له . قال ابن خالويه : صليت خلف في شهر رمضان فسمعته يقرأ : وكان ابن شنبوذ عبد الله على قراءة . قال ابن مسعود ابن زيد : ( وجيها ) مقبولا . وقال الحسن : مستجاب الدعوة ، ما سأل شيئا إلا أعطي ، إلا الرؤية في الدنيا . وقال قطرب : رفيع القدر . وقيل : وجاهته أنه كلمه ولقبه كليم الله . والسديد : تقدم شرحه في أوائل النساء . وقال : هنا صوابا . وقال ابن عباس مقاتل وقتادة : سديدا في شأن زيد وزينب والرسول . وقال ، ابن عباس وعكرمة أيضا : لا إله إلا الله ، وقيل : ما يوافق ظاهره باطنه ، وقيل : ما هو إصلاح من تسديد السهم ليصيب الغرض ، وقيل : السديد يعم الخيرات . ورتب على القول السديد : صلاح الأعمال وغفران الذنوب . قال : وهذه الآية مقررة للتي قبلها . بنيت تلك على النهي عما يؤذى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذه على الأمر باتقاء الله في حفظ اللسان ، ليترادف عليهم النهي والأمر ، مع إتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة الزمخشري موسى ، وإتباع الأمر الوعد البليغ ، فيقوى الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه . انتهى ، وهو كلام حسن .