و ( دابة الأرض تأكل ) هي سوسة الخشب ، وهي الأرضة . وقيل : ليست سوسة الخشب ; لأن السوسة ليست من دواب الأرض ، بل هذه حيوان من الأرض شأنه أن يأكل الخشب ، وذلك موجود . وقالت فرقة ، منها أبو حاتم : الأرض هنا مصدر أرضت الأبواب والخشب أكلتها الأرضة فكأنه قال : دابة الأكل الذي هو بتلك الصورة . وإذا كان الأرض مصدرا ، كان فعله أرضت الدابة الخشب تأرضه أرضا فأرض بكسر الراء نحو : جدعت أنفه فجدع . ويقال : إنه مصدر لفعل مفتوح العين . قراءة ابن عباس والعباس بن الفضل : ( الأرض ) بفتح الراء ; لأن مصدر فعل المطاوع لفعل يكون على فعل نحو : جدع أنفه جدعا وأكلت الأسنان أكلا ، مطاوع أكلت . وقيل : الأرض بفتح الراء جمع أرضة ، وهو من إضافة العام إلى الخاص ; لأن الدابة أعم من الأرض . وقراءة الجمهور بسكون الراء ، فالمتبادر أنها الأرض المعروفة ، وتقدم أنها مصدر لأرضت الدابة الخشب . وتأكل حال ، أي أكلت منسأته ، وهي حال مصاحبة . وتقدم أن المنسأة هي العصا ، وكانت فيما روي من خرنوب ، وذلك أنه كان يتعبد في بيت المقدس ، فتنبت له في محرابه كل سنة شجرة تخبره بمنافعها فيأمر فتقلع ، ويتصرف في منافعها ، وتغرس لتتناسل . فلما قرب موته ، نبتت شجرة وسألها فقالت : أنا الخرنوب ، خرجت لخراب ملكك ، فعرف أنه حضر أجله ، فاستعد واتخذ منها عصا واستدعى بزاد سنة ، والجن تتوهم أنه يتغذى بالليل . وروي أن سليمان كان في قبة ، وأوصى بعض أهله بكتمان موته عن الإنس والجن سنة ليتم البناء الذي بدئ في زمن داود ، فلما مضى لموته [ ص: 267 ] سنة ، خر عن العصا ونظر إلى مقدار ما تأكله الأرضة يوما وقيس عليه ، فعلم أنها أكلت العصا منه سنة . وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وجماعة : منساته بألف ، وأصله منسأته ، أبدلت الهمزة ألفا بدلا غير قياسي . وقال أبو عمر : وأنا لا أهمزها لأني لا أعرف لها اشتقاقا ، فإن كانت مما لا تهمز ، فقد احتطت ، وإن كانت تهمز فقد يجوز لي ترك الهمزة فيما يهمز . وقرأ ابن ذكوان وجماعة منهم بكار والوليدان بن عتبة وابن مسلم : منسأته ، بهمزة ساكنة ، وهو من تسكين التحريك تخفيفا ، وليس بقياس . وضعف النحاة هذه القراءة ; لأنه يلزم فيها أن يكون ما قبل التأنيث ساكنا غير الفاء . وقيل : قياسها التخفيف بين بين ، والراوي لم يضبط ، وأنشد هارون بن موسى الأخفش الدمشقي شاهدا على سكون هذه القراءة قول الراجز :
صريع خمر قام من وكأته كقومة الشيخ إلى منسأته
وقرأ باقي السبعة بالهمز مفتوحة ، وقرئ بفتح الميم وتخفيف الهمزة قلبا وحذفا ، وعلى وزن مفعالة : ( منساءة ) . وقرأت فرقة ، منهم عمر بن ثابت عن ابن جبير : مفصولة حرف جر وسأته بجر التاء ، قيل : ومعناه من عصاه ، يقال لها : ساة القوس وسيتها معا ، وهي يدها العليا والسفلى ، سميت العصا ساة القوس على الاستعارة ، ولا سيما إن صح النقل أنه اتخذها من شجر الخروب قبل موته ، فيكون حين اتكأ عليها ، وهي كما قطعت من شجرة خضراء ، قد اعوجت حتى صارت كالقوس . ألا ترى أنك إذا اتكأت على غصن أخضر كيف يعوج حتى يكاد يلتقي طرفاه ؟ فيها لغتان : ساة وسية ، كما يقال : قحة وقحاة ، والمحذوف من ساة وسية .
( فلما خر ) أي سقط عن العصا ميتا ، والظاهر أن الضمير في خر عائد على سليمان . وقيل : إنه لم يمت إلى أن وجد في سفر مضطجعا ، ولكنه كان في بيت مبني عليه ، وأكلت الأرضة عتبة الباب حتى خر الباب ، فعلم موته . وقال : مات في متعبده على فراشه ، وقد أغلق الباب على نفسه فأكلت الأرضة المنسأة ، أي عتبة الباب فلما خر أي الباب . انتهى . ابن عباس
وهذا فيه ضعف ; لأنه لو كانت المنسأة هي العتبة ، وعاد الضمير عليها ، لكان التركيب : فلما خرت بتاء التأنيث ، ولا يجيء حذف مثل هذه التاء إلا في ضرورة الشعر ، ولا يكون من ذكر المعنى على معنى العود لأنه قليل . وقرأ الجمهور : تبينت مبنيا للفاعل ، فاحتمل أن يكون من تبين بمعنى بان ، أي ظهرت الجن ، والجن فاعل ، وأن وما بعدها بدل من الجن . كما تقول : تبين زيد جهله ، أي ظهر جهل زيد ، فالمعنى : ظهر للناس جهل الجن علم الغيب ، وأن ما ادعوه من ذلك ليس بصحيح . واحتمل أن يكون من تبين بمعنى علم وأدرك ، والجن هنا خدم الجن ، وضعفتهم ( أن لو كانوا ) أي لو كان رؤساؤهم وكبراؤهم يعلمون الغيب ، قاله قتادة . وقال : أو علم المدعون علم الغيب منهم عجزهم ، وأنهم لا يعلمون الغيب ، وإن كانوا عالمين قبل ذلك بحالهم ، وإنما أريد بهم التهكم كما يتهكم بمدعي الباطل إذا دحضت حجته وظهر إبطاله ، كقولك : هل تبينت أنك مبطل وأنت لا تعلم أنه لم يزل لذلك متبينا ؟ انتهى . ويجئ تبين بمعنى بان وظهر لازما ، وبمعنى علم متعديا موجود في كلام العرب . قال الشاعر : الزمخشري
تبين لي أن القماءة ذلة وأن أعزاء الرجال طيالها
وقال آخر :
أفاطم إني ميت فتبيني ولا تجزعي كل الأنام يموت
أي : فتبيني ذلك أي اعلميه . وقال ابن عطية : ذهب إلى أن : ( أن ) لا موضع لها من الإعراب ، إنما هي موزونة ، نحو أن ما ينزل منزلة القسم من الفعل الذي معناه التحقيق واليقين ; لأن هذه الأفعال [ ص: 268 ] التي هي تحققت وتيقنت وعلمت ونحوها تحل محل القسم . فما لبثوا : جواب القسم لا جواب لو . وعلى الأقوال الأول جواب لو . وفي كتاب النحاس إشارة إلى أنه يقرأ ( سيبويه تبينت الجن ) بنصب الجن ، أي تبينت الإنس الجن ، والمعنى : أن الجن لو كانت تعلم الغيب ما خفى عليها موته ، أي موتسليمان . وقد ظهر أنه خفي عليها بدوامها في الخدمة والضعة وهو ميت . وقرأ - فيما ذكر ابن عباس ابن خالويه ويعقوب بخلاف عنه : تبينت مبنيا للمفعول ، وعن ، ابن عباس ، وابن مسعود وأبي ، وعلي بن الحسن ، والضحاك قراءة في هذا الموضع مخالفة لسواد المصحف ولما روي عنهم ، ذكرها المفسرون ، أضرب عن ذكرها صفحا على عادتنا في ترك نقل الشاذ الذي يخالف للسواد مخالفة كثيرة .